معنى جمال عبدالناصر

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأربعاء 23 يوليه 2014 - 10:10 ص بتوقيت القاهرة

بجملة اعتراضية واحدة قطع الأستاذ «محمد حسنين هيكل» سياق حديث معه عن تحولات السياسة المصرية وآفاق المستقبل المحتملة قائلا: «أرجو أن يكون واضحا أمامك أن آخر صورة لى أتمنى أن تستقر فى التاريخ وأنا واقف بجوار جمال عبدالناصر».

قبل أن يعود الحوار إلى سياقه أردف: «وإذا كانت هناك صورة أخيرة تضاف فإنها الأيام التى سبقت حرب أكتوبر فقد انقضى عهد عبدالناصر بعد يومها الأول وبدأ من اليوم التالى عهد آخر».

كان حاسما فى تصوره لموقعه ودوره، فهو «خارج حسابات المستقبل لكنه مهتم به بقدر قلقه على بلده».

على نحو ما فهو يعتقد أن جوهر دوره استوفى مع «جمال عبدالناصر» وأن ما لعبه من أدوار أخرى مؤثرة بعمق فى الحياتين الصحفية والسياسية «استطراد» لما هو جوهرى فى عصور جديدة.

الكلام مثير بنصه ورسائله التى أرادها أن تكون واضحة والمعضلة فيه على ما سألته: أين يتوقف الماضى.. ومتى يتحرك المستقبل؟

فهو من الماضى بميزان أدواره وهو فى المستقبل بأثر أفكاره.

لا أحد بوسعه أن يضع خطا فاصلا يقول عنده إن الماضى توقف هنا وأن المستقبل بدأ، فالمستقبل مشدود إلى ماضيه بقدر ما هو ضرورى للتعلم وعدم تكرار الأخطاء.

وفى التجربة المصرية لا الماضى يغادر المخيلة العامة ولا المستقبل وجد بوصلته التى تعوزه.

حدث ما يشبه الانهيارات الصخرية، كتل تسقط وراء بعضها عقدا بعد آخر وما جرى إنجازه فى مرحلة هدم تاليا والسياسات تناقضت بفداحة والضمير العام دخل فى أزمات لا مثيل لخطورتها فتاريخه تحت القصف المتواصل ومعاركه الكبرى أهينت. استبيحت الذاكرة العامة وزيفت وقائع التاريخ، فالثورة مؤامرة وتأميم قناة السويس حماقة والوحدة مع سوريا طيش ونصرة حركات التحرير العربية فى الجزائر واليمن مغامرة وتحرير القارة الأفريقية مغامرة أخرى فى الأدغال والأفدح من ذلك كله أن العدالة الاجتماعية بإنجازاتها التى لا مثيل لها فى التاريخ المصرى كله تعرضت لحملات تشهير منهجية سوغت نهب المال العام والتنكيل بالطبقة الوسطى والفئات الأكثر فقرا.

لا توجد ثورات خالدة فى التاريخ، فكل ثورة عندما تستكمل أدوارها تفسح المجال لنظم سياسية أكثر استقرارا وانتسابا للمبادئ التى دعت إليها. وهذا ما لم يحدث وترتب عليه أن ظلت يوليو ماثلة بقضاياها ومعاركها فى المساجلات العامة كموضوع معارك يومية بين ما كان وما هو جار، فتدهور المكانة الإقليمية لمصر استدعى بالطبيعة تساؤلات عن أسبابه والمقارنة بما قبله حيث كانت الكلمة مسموعة والدور مهيبا. فى كل أزمة عربية على مدى عقود هناك سؤال يتكرر بصيغ مختلفة: أين مصر؟.. وفى المخيلة أدوار «عبدالناصر».

وفى تدهور المكانة الأفريقية فإن السؤال نفسه طارد المخيلة المصرية.

من الطبيعى توظيف التاريخ بما لعبته فيه من أدوار فى إدارة مصالحك الاستراتيجية ومن غير الطبيعى أن تقف على أبواب الماضى وحده بلا قدرة عن تلبية التحديات الجديدة فى أزمان مختلفة.

فى قوة نموذج «عبدالناصر» وعمق أثره فى مجتمعه ومحيطه وعالمه أسرار صموده لاختبارات الزمن بينما العهود الأخرى تساقطت. اتسقت السياسات واتسعت الرؤى، صدق نفسه وصدقه شعبه، حارب من أجل ما يعتقد فيه وكان كلامه ملهما لإرادة التغيير.

فى الانقضاض على مشروعه تأكدت قيمته بما دعا أحد خصومه السياسيين نقيب المحامين الأسبق «عبدالعزيز الشوربجى» وهو وفدى عتيد قاد معارضة جدية ضد «كامب ديفيد» أن يسجل فى محاضر تحقيق رسمية بعد اعتقالات سبتمبر: «والله لو استقبلت من أمرى ما استدبرت لكنت من رجاله والمقاتلين معه» وارتفع مثقفون ومفكرون يساريون فوق جراح السجون فدافعوا عن تجربته لأن فى الدفاع عنها تأكيد حق مصر فى استقلال قرارها وعدالة توزيع ثروتها.

التجارب الإنسانية تصيب وتخطئ و«عبدالناصر» «عظيم المجد والأخطاء» على ما أنشد «الجواهرى» الشاعر العراقى الأكبر غير أن هدم مبادئها قضية أخرى.

هنا تفترق الطرق وتتحدد المعسكرات.

ولهذا صمدت تجربته فى اختبارات الزمن.

وقد أزال مشروعها فى العدالة الاجتماعية والتحرر الوطنى والدور القومى بالوقت وتطوير المفاهيم أية تنافضات مع قضية الديمقراطية السياسية واكتسب زخما إضافيا.

وعلى جسور الزمن بين الماضى والمستقبل فإن هناك فارقا بين قضيتين.. الأولى، الحياة فى الماضى، وهذه مأساة كاملة، فالأصل أن تتحرك الشعوب إلى الأمام وتواجه تحديات مستقبلها، تعتز بماضيها وتقرأه بعين من يريد أن يرى مواطن الخطأ حيث كان هناك خطأ ومواضع الصواب حيث كان هناك صواب. توقف ساعة الزمن بذاته يؤشر إلى أزمة مجتمع لا يعرف ما الذى جرى له ولا كيف يتقدم من جديد؟

الثانية، قضية المشروع، فلا تولد مشروعات من فراغ أو أساس من تاريخ يبنى عليه، فأى مشروع له قيمة حقيقية ابن تاريخ أمته. التراكم مسألة حاسمة ومأساة مصر أنها تهدر خبرتها مرة بعد أخرى. لا «عبدالناصر» اخترع العدالة الاجتماعية أو اكتشف العروبة ووحدة المصير الإنسانى واستقلال القرار الوطنى لكنه وضع توجهات الوطنية المصرية ومن بينها تأميم القناة وبناءالسد العالى وتوزيع الأراضى على الفلاحين فى التنفيذ الفعلى وبالتجربة نضجت تصوراته ودخلت فى سياق واحد وهو ما يطلق عليه المشروع.

أفضل ما يعرف به مشروع «عبدالناصر» أنه «المشروع الوطنى المتجدد» هناك خطوط ممدودة من الماضى للمستقبل وكل جيل يضيف بقدر ما يجتهد فى تحديات عصره ويضع أحلامه على محك التنفيذ، وهو مالم يحدث منذ «عبدالناصر» حتى الآن.

وهذا من أسباب حضور الماضى بأكثر مما هو طبيعى وصحى فى أسئلة المستقبل.

الماضى يلهم لكنه لا يقود والمستقبل تصنعه أجياله الجديدة وأصحاب الحق فيه.

الذاكرة اليقظة تعبير عن أمة يقظة وتزييف الوعى التاريخى جريمة متكاملة الأركان فى حق المستقبل.

بصورة ما فإن ما استقر فى الذاكرة العامة حافظ على يوليو وأثرها فى إلهام المستقبل، ولم تكن مصادفة على أى نحو أن تتصدر صور «عبدالناصر» التظاهرات الحاسمة فى ثورتى يناير ويونيو وما بينهما.

شىء حقيقى وملهم تجاوز اختبارات الزمن.

وقبل اختبارات الزمن فإن مشروعه صمد لاختبارات أخطر، ففى لحظات الهزيمة التى لحقت بمصر فى يونيو (١٩٦٧) أعاده شعبه إلى السلطة بتظاهرات مليونية عمت المدن المصرية وامتدت إلى عواصم عربية. لم يحدث من قبل فى التاريخ الإنسانى الحديث أن لحقت هزيمة مدوية بقائد فيخرج شعبه يدعوه هو نفسه لبناء الجيش والقتال من جديد.

لو أن شعبا آخر مع رجل آخر لحقت به هزيمة من نفس الحجم لتصرف يقينا على نحو مختلف. الحس الشعبى التاريخى للمصريين فاجأه هو نفسه وأخذ يسأل نفسه حائرا: «لماذا؟».

لم يكن المصريون فى حاجة إلى عرائض تشرح أسبابهم، فالتجربة تقنعهم بجديتها وبلادهم تتقدم فى مستويات معيشة أهلها والعالم العربى يمضى خلفها والمعارك تدور كل يوم للتخلص من صداعها، ببساطة كان «عبدالناصر» رجلهم قبل أن يكونوا هم رجاله. وكان هذا هو أعمق معانيه التى تجاوزت اختبارات الزمن.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved