عن الحرب الإسرائيلية على غزة

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 23 يوليه 2014 - 9:30 ص بتوقيت القاهرة

داهمت الامتحانات الصعبة السلطة الجديدة فى مصر فور استقرارها فى قصور الحكم.. بل إن بعض هذه التحديات قد سبقتها لتفرض عليها قرارات سريعة، كان أن يخشى أن تصدر بردات فعل غاضبة نتيجة سوء الفهم أو سوء التقدير أو الأحكام المسبقة.

لقد تعودت القاهرة أن تكون مركز القرار.. وحتى فى أيام ضعف السلطة أو تهافتها، أو فى أيام تحزب السلطة فيها أو عصبيتها، ظلت القاهرة تطالب بهذا الحق، بالرغم من تزايد أعداد المعترضين إما لأسباب مبدئية وإما لشعور البعض بتناقص قدرة القاهرة على التأثير عربيا، ومن ثم دوليا، وإما نتيجة لافتراق العرب عن بعضهم البعض وتبعثرهم أيدى سبا.

لكن الحرب الإسرائيلية الجديدة على غزة أخطر بما لا يقاس من الاختلاف السياسى مع حماس، ولأسباب شديدة الوضوح: فهى ــ بداية ــ حرب ضد الشعب، كل الشعب الفلسطينى فى غزة، وهو هو الشعب الفلسطينى فى الضفة الغربية كما أنه هو هو الشعب الفلسطينى فى الداخل (1948).. وبالتالى فهى حرب ضد هوية هذا الشعب بقدر ما هى ضد عروبته.

ثم إن إسرائيل تحاول أن تستفيد من الخلافات المستعرة بين السلطة فى مصر وبين تنظيم الإخوان المسلمين الذى خلعه المصريون قبل عام ونيف، فتحاول تصوير غزة بالمليون ومائتى ألف فلسطينى فيها، نساء ورجالا وشيوخا وأطفالا، وكأنهم جميعا من «الإخوان»، وبالتالى فهم «خصوم» لمصر وسلطتها بالحد الأدنى و«أعداء» بالحد الأقصى.. وبالتالى فإن إسرائيل تحاول إيهام السلطة فى مصر أنها إنما «تحارب لحسابها»، وتكمل معركتها داخل مصر فى الساحة القريبة منها، والتى طالما صورت وكأنها «قاعدة خلفية» للإخوان، ومصدر إزعاج للسلطة فى مصر بأنفاقها التى لا تنتهى، والتى كانت تستخدم لتهريب السلاح و«الإخوان» إلى داخل غزة ثم تحولت إلى تهريب السلاح و«الإخوان» المسلمين إلى داخل مصر.

ولقد سقطت بعض أجهزة الإعلام المصرية فى هذا الفخ، وتورط إعلاميون مفتوح لهم الهواء فى حملات عنصرية ضد الفلسطينيين عموما، واندفعوا إلى أبعد مما وصل إليه الإسرائيليون، فانحدروا إلى الشتيمة والإهانات والتجريح المباشر بالشعب الفلسطينى جميعا.. ولم يتورع بعض هؤلاء عن التحدث بحذائه، متخطيا الانحياز إلى العدو الإسرائيلى إلى شن حرب عنصرية جاهلية ضد أى فلسطينى وكل فلسطينى.

أما الدول العربية الأخرى، فى المشرق أساسا، ثم فى بعض المغرب، فمعظمها غارق حتى أذنيه فى حروب داخلية، معظمها ضد حركات إسلامية لا يحتل الإخوان موقع الصدارة فيها، بل هى تتجاوزهم بكثير وصولا إلى المناداة بالخلافة.

•••

على هذا فإن الأكثرية الساحقة من الأنظمة العربية مشغولة عن غزة وما يجرى فيها ولها بمعاركها المباشرة والعسكرية غالبا ضد تنظيمات إسلامية أعظم تشددا من الإخوان المسلمين وأخطر بمنطلقاتها الفكرية وباستهدافاتها السياسية من أقصى طموحات الإخوان ومفتيهم القرضاوى.

هكذا وجدت إسرائيل أنها، بمدافعها وطيرانها ودباباتها والصواريخ، حرة فى قرارها بشأن غزة وأهلها، تقصفها من الجو والبحر والبر، تقتحم أحياءها الفقيرة المبعثرة مدنا صغيرة وقرى هى فى حقيقة الأمر مخيمات لجوء متكرر: 1948، 1967، 1973، إلخ.

بالمقابل فقد أساء أصحاب القرار فى القاهرة تقدير الموقف، ولعلهم افترضوا أن الاعتداء سيقتصر على بضع غارات جوية، أو على «عملية عسكرية محدودة» تأتى إليهم بـ«حماس» تائبة، مستغفرة، تصالحهم بشروطهم لكى يتدخلوا لوقف العدوان الإسرائيلى. كما قد تأتى إليهم بإسرائيل طالبة وساطتهم لوقف الحرب.. وهكذا تربح السلطة فى مصر على الضفتين.

لكن العدوان الإسرائيلى تطور إلى حرب فعلية، فى البر والبحر والجو، استهدفت أهالى غزة جميعا، بالنساء والشيوخ والأطفال، لاسيما الأطفال، وبالبيوت والمستشفيات والمنشآت القليلة القائمة فى هذا القطاع المحاصر.

صار العدوان حربا شاملة ضد كل ما وكل من فى غزة و«المدن» الأخرى من حولها، التى هى فى حقيقة الأمر مخيمات لجوء نفخها تزايد أعداد اللاجئين إليها من أنحاء فلسطين الأخرى، عبر الحروب المتكررة عليها جميعا.

وبالتالى لم تعد ذريعة الخصومة كافية للتستر بها والامتناع عن نجدة أهل غزه، بكل من فيها.. خصوصا أن مقاتلى «حماس» ومعهم رفاقهم فى «الجهاد الإسلامى» خصوصا ثم فى الجبهات الفلسطينية المختلفة (والجبهة الشعبية بشكل خاص) كانوا شركاء فى مواجهة الحرب، كل بحسب إمكاناته.

•••

هى حرب إسرائيلية على فلسطين فى غزة. وهى بالتالى حرب إسرائيلية على مصر، كما على لبنان الذى لم تجف بعد دماء شهدائه فى الحرب الإسرائيلية عليه فى مثل هذه الأيام من العام 2006، كما على سوريا التى لم تمنع الحروب فيها وعليها إسرائيل من شن الغارات المتكررة على بعض المنشآت العسكرية ذات الأهمية الإستراتيجية خلال السنوات الثلاث الماضية.. وهى حرب على العراق المشغول بالفتن التى تكاد تذهب بدولته، كما على سائر الدول العربية فى المشرق والمغرب.

وفى أى حرب إسرائيلية على أى بلد عربى، لا يمكن أن تكون مصر هى الوسيط.. فإذا ما تعذر عليها أن تكون «القائد»، فلا يمكن أن تتدرج نزولا فى شروط «المساعى الحميدة»، بحيث تقارب الشروط الإسرائيلية، بالرغبة فى الثأر من «الإخوان».

ليست هذه اللحظة المناسبة للحساب. وليس لحساب العدو يكون الثأر، إن كان لابد منه.

•••

ومنذ زمن ليس بقليل، خسر العرب ما كان تبقى من أسباب تضامنهم فى مواجهة عدوهم المشترك، إسرائيل، وانقسموا معسكرات تقاتل بعضها بعضا، موفرين للعدو فرصة ذهبية لقتال كل دولة منهم على حدة وإلحاق الهزيمة بها، تمهيدا «للصلح» بشروطها القاسية.

صار العرب معسكرين، ثم ثلاثة معسكرات، فأربعة، فخمسة.. ثم انقسم كل معسكر على نفسه، قبل أن تشتعل نيران الحروب بين العرب والعرب، بينما الاحتلال الإسرائيلى يذوِّب فلسطين التى شرخت ثلاثة أجزاء: «الداخل ــ أى أراضى 1948 التى ضمنها الإسرائيليون إلى كيانهم السياسى»، و«الضفة الغربية» التى تحولت منظمة التحرير الفلسطينية إلى «سلطة» فيها بعد اتفاق أوسلو، وقطاع غزة الذى انفصل عن «السلطة» ذات يوم، نتيجة الاختلاف بين حماس ومنظمة التحرير، وكان على وشك العودة أو فى الطريق إليها عشية الحرب الإسرائيلية الجديدة.. ولعل هذا بين أسباب الاستعجال الإسرائيلى لهذه الحرب.

من زمان، كان الحكام العرب كثيرا ما يختلفون فى ما بينهم، ولأسباب شتى فيها الشخصى وفيها السياسى، فيها المحلى، وفيها ما هو بإيعاز من الخارج ولحسابه، لكن الشعوب العربية ظلت، وإلى حد كبير، تتحصن بوحدة مشاعرها الوطنية والقومية، مبتعدة عن صراع الأنظمة، معززة وحدة موقفها بفلسطين، كل فلسطين، بغض النظر عن تشطيرها المفروض بالأمر.

أما اليوم فالأمر مختلف جدا، ذلك أن الأنظمة قد نجحت فى «تحريض» الشعوب العربية ضد فلسطين عموما، وضد غزة خصوصا، إما بسبب خلافاتها السياسية مع «السلطة»، أو بسبب صدامات بعضها مع تنظيم الإخوان المسلمين والذى بلغ ذروته فى ظل «الحرب» بينهم وبين النظام الجديد فى مصر، وحربهم على النظام فى سوريا، وعلى النظام فى العراق، وحول النظام فى ليبيا الخ..

•••

وها أن الحرب الإسرائيلية الرابعة أو الخامسة على الشعب الفلسطينى تدور رحاها تحت غطاء من الصمت العربى الرسمى شبه الكامل.. بل أن جهات عربية عديدة، رسمية وإعلامية تكاد تتبنى المنطق الإسرائيلى فى تبرير هذه الحرب، هذا إذا ما تجاهلنا نبرة «الشماتة» وسحب الموقف من حماس على الشعب الفلسطينى جميعا، والذى يتجاوز فى قسوته أحيانا مواقف جنرالات الحرب الإسرائيلية بالذات.

هذا لا يعنى تجاهل أو تناسى مواقف الإخوان المسلمين التى كثيرا ما جاءت متعارضة مع الوجهة العامة للرأى العام العربى بمختلف تلاوينه الفكرية والسياسية. ولقد بلغ هذا التعارض ذروته عندما أتيح للإخوان فى غفلة من قوى الميدان فى مصر أن يستولوا على السلطة فى القاهرة، وان يكشفوا عن برنامجهم المتناقض مع الإرادة الشعبية داخل مصر، كما فى سائر أنحاء الوطن العربي.

لقد كانت تلك سقطة خطيرة للإخوان المسلمين فضحت تلهفهم للاستيلاء على السلطة بأى ثمن، واندفاعهم إلى التحالف المخالف للطبيعة مع أنظمة غير عربية (تركيا) تربطها علاقة وثيقة تقارب التوحد فى الموقف مع إسرائيل.

لكن اللحظة غير مناسبة الآن للمحاسبة عما كان من مواقف قبل الحرب الإسرائيلية بنتائجها المدمرة.

والأمل فى القاهرة، بسلطتها الجديدة، أن تبقى المرجع والمعين والمرشد للمخطئ كما للمصيب من أهلها العرب، فى فلسطين وخارجها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved