سلوكيات اللسان.. 24- الشورى-أ

جمال قطب
جمال قطب

آخر تحديث: الأربعاء 23 يوليه 2014 - 9:45 ص بتوقيت القاهرة

«الشورى» فرض عين على كل إنسان، وفى كل وقت، فلا يقدم أحدنا على عمل إلا باستعداد وفهم، وإذا أحس بعدم وضوح الأمر أمامه، فرض عليه مشورة الآخرين.

فطلب الشورى ليس ضعفا، وإجابة السائل ليست فضلا، بل هى فريضة على الأمة، لا يتم إيمان المؤمن دون تحريها وأدائها حسبة لله.

وقد ثبتت فريضة الشورى من آيتين محكمتين فى القرآن الكريم، نناقش اليوم أحدهما: (..وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ..) فهى أمر مباشر للرسول، نحاول تدبره والتفقه فيه.

(1)

هذه الكلمات الثلاث (..وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ..) جملة تمثل مقطعا فى آية قرآنية. ومن أصول التدبر أن توضع الجملة فى سياقها، الذى جاءت فيه، وهذا هو نص الآية (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ).

كذلك من أصول التدبر قراءة السياق كله فى ضوء مناسبته، وهذه الآية وما قبلها وما بعدها واضح أنها نزلت تعقيبا على غزوة أحد، بسبب مخالفة الرماة لأمر الرسول لهم ألا يغادروا مكانهم تحت أى ظرف. وبدت تباشير النصر فنسى الرماة أمر الرسول وتركوا مكانهم ليشاركوا المقاتلين النصر وجمع الغنائم. فانتهز المشركون تلك اللحظة، فشدوا على المسلمين كرة أربكتهم وأحاطت بهم، ولولا مدد إلهى ما استطاع المسلمون الانسحاب سالمين والرجوع إلى بيوتهم.

فما جزاء هؤلاء «الرماة» الذين خالفوا أمر الرسول وتسببوا فى تمكين المشركين من إلحاق الهزيمة بالمسلمين؟ سيتراوح الجزاء بين لوم شديد واستبعاد من القيادة والإدارة، وربما بتحميلهم مسئولية ما حدث، لكن القرآن نزل يعلم المسلمين كيف يستقبلون الأقدار، وكيف يصححون المسيرة، وكيف يدير القائد الأعلى علاقاته بجيشه ومجتمعه.

(2)

الجملة الأولى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ..) افتتاحية تمهد لاستقبال التشريع، فبدأ بالتركيز على الرحمة الواجبة دائما بين القائد والجند.

والجملة الثانية: (..وَلَوْ كُنتَ فَظّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ..) وهذه الجملة تفرض ترويض القلب على دوام المحبة والألفة والأنس بالناس، كما تفرض الحرص على تواجدك بين الناس، فكل الناس لبعضهم البعض حتى لا تأكلهم أمراض النفس وتغتالهم الشياطين فيصابوا بغلظة القلب ثم قسوته ثم وحشيته.

أما الجملة الثالثة: (..فَاعْفُ عَنْهُمْ..) فالعفو فريضة إيمانية وشيمة من شيم الصالحين، والعفو أبعد مدى من المسامحة. فالعفو يمحو ويزيل أثر ما كان فلا ترجع عليهم مرة أخرى بما كنت سامحتهم فيه. فالعفو «محو الشىء» فلا يتبقى له أثر.

والجملة الرابعة: (..وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ..) هكذا تكون شهامة القائد وكرمه ورحمته أن يعفو عمن أساء منهم ثم يدعو الله لهم ألا يعاقبهم حرصا عليهم ألا يصيبهم عقاب الله أو عذابه أو لعنته.

والجملة الخامسة (..وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ..) وبعد كل ما سبق من الرحمة والعفو، فالمطلوب أن يتمتع «المخطئون» بحقوقهم ومكانتهم وأن يبقوا فى مواقع المسئولية، بل وأكبر المناصب فى أداء الشورى.

(3)

فالشورى ليست قرارا يصدر لاعتماد رأى الأغلبية، بل الشورى حوار دائم حول نقاط التماس، وعند كل مرة يتم فيها «العرض والتصويت» تتعرف الأغلبية على موانع الأقلية، فتقوم بتعديل تصورها تقاربا من تخوفات الأقلية، وكذلك تتعرف الأقلية على دوافع الأغلبية وعلى ما قدمته من تعديلات وضمانات، وهكذا تضيق الفجوة بين الفريقين فيصبح فريقا واحدا.

ننتقل من التدبر إلى التفقه: فالشورى فريضة يسعى إليها الجميع حكاما ومواطنين، فللجميع أن يعرض تصوراته، وعلى ذوى التخصص أن يقوموا بالدراسة والمقارنة والتفصيل والتفضيل، ثم على الجميع أن يتعاونوا فى تنفيذ ما تم التوافق عليه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved