الاتفاق.. أسباب فى النجاح ومعضلات على الطريق

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 23 يوليه 2015 - 8:30 ص بتوقيت القاهرة

الاتفاق بين إيران والدول الكبرى حدث هام وتطور له شأن وستكون له آثار على مستقبل العلاقات الدولية، ولكنه، فى ظنى وفى الوقت الراهن على الأقل، ليس هو الحدث الذى يستحق هذا الاهتمام الجارف. على كل حال ليس من المستبعد أن يكون المفاوضون الكبار قد اختاروا ان يصاحب المفاوضات هذا الضجيج الهائل والتعبئة الإعلامية والسياسية الشاملة، ليحقق الاتفاق، خلال التفاوض عليه وبعد التوصل إليه، أهدافا أخرى تخدم مصالح لم يعلن عنها.
***
بتضخيم الحدث والمبالغة فى تصوير صعوباته خلال المفاوضات، أو بدونهما، تبقى حقيقة لا جدال فيها وهى ان مفاوضات هامة جرت بين دول هى الأقوى عسكريا واقتصاديا وسياسيا ودولة عادية القوة من دول العالم النامى. كان موضوع الخلاف شكوكا قوية لدى القوى الكبرى فى أن تتمكن الدولة عادية القوة من أن تتحول إلى قوة نووية. تبقى قائمة حقيقة أخرى، وهى أنه بالرغم من الاختلافات الشاسعة فى القوة المادية للمتفاوضين، استطاع أطراف التفاوض التوصل إلى اتفاق الأمر الذى يستنتج أهمية دور القوة غير الملموسة وغير المادية فى عمليات التفاوض. تبقى حقيقة ثالثة سوف تفرض نفسها على جمهرة الباحثين فى مراكز العصف الفكرى وعلى مناهج تدريب الدبلوماسيين وعلى المهتمين بالسياسة الخارجية، وهى ما كشفت عنه هذه المفاوضات تحديدا عن تعدد مهارات التفاوض لدى المفاوضين المباشرين والمفاوضين من مكاتبهم على مسافة مئات أو آلاف الأميال. أتصور كذلك ان حقيقة رابعة تجلت فور التوقيع على الاتفاق، وهى ان معضلات عديدة نشأت وأخرى على أهبة أن تتفاقم. أغلب الظن ان هذه المعضلات سوف تهيمن على كثير من تطورات الأمور فى الشرق الأوسط خاصة وانماط التحالفات الدولية بشكل عام.
***
تعددت الاجتهادات حول الظروف التى ساعدت فى نجاح المفاوضات بين إيران والدول الكبرى، واعتقد ان بعض ما ورد من اجتهادات يستحق بالفعل الاهتمام باعتبار ان فيه ما يتعلق بظروف قد تستمر، ومنه ما يعلن انتهاء مرحلة أو حالة. أبرز هذه الاجتهادات الاعتقاد بأن أوباما استطاع ببراعة «تجييش» المفاوضات مع إيران كوسيلة حرم بها إسرائيل من القدرة والوقت على تحشيد عواصم الغرب لشن حرب على إيران. أوباما فى هذا الاجتهاد ليس أوباما الشخص، ولكنه المرحلة التاريخية فى تطور الدور الأمريكى فى العالم، وهو التعبير الصريح عن الحاجة الملموسة لإجراء تعديلات جوهرية فى الفكر السياسى الأمريكى. أما أوباما الزعيم، أو أوباما الشخص، فلعله بالفعل أراد أن يحقق تسوية إسرائيلية ــ فلسطينية وكان فشله فيها دافعا له ليتوصل إلى انجاز آخر فى موضوعات أخرى، فكانت ميانمار ثم كوبا وفى النهاية إيران، وهنا فى هذه الأخيرة غلبه ولاشك الشعور بالرضا لأنه الموضوع الأقرب صلة بالقضية الفلسطينية، ويستطيع من خلاله التعويض عن أشد إهانة تلقاها رئيس أمريكى على يد رئيس حكومة دولة صغيرة، حين تطاول نتنياهو وقفز فى اتجاه الكونجرس متجاوزا مكانة الرئيس الأمريكى .
***
ربما ما كان يمكن لأوباما ان يتوصل لهذا الاتفاق مع إيران لو لم يكن العقل الاستراتيجى الأمريكى قد اتخذ قراره بالانسحاب من الشرق الأوسط، أو على الأقل تخفيض درجة الاهتمام به. وربما ما كان يمكن التوصل لاتفاق بهذه السرعة النسبية لو حاولت روسيا وضع عراقيل خلال المفاوضات. كان واضحا منذ البداية ان لروسيا مصلحة قوية فى أن يتوصل الغرب إلى اتفاق تتوقف بموجبه العقوبات المفروضة على إيران وتعود دولة فاعلة فى النظام الدولى. أدركت روسيا بعد طول معاناة ان إيران يمكن أن تكون مفيدة إذا أصبح لها دور فى علاقات إقليم وسط آسيا وفى صنع مستقبل أفغانستان واستقرار جنوب القوقاز.
***
لم يكن خافيا على المفاوضين الإيرانيين حاجة دول عديدة إلى التوصل إلى اتفاق بين الدول الغربية وإيران. روسيا ليست الوحيدة التى تطلعت بنهم شديد إلى التدفقات المالية التى سوف تنتج عن الاتفاقية، فقد اصطفت دول وقوى وشركات أملا فى أن تحظى بالأسبقية فى سباقات الاستثمار والقروض وتمويل المشروعات. نحن مثلا رغم بعد المسافة التى تفصلنا عن قاعات التفاوض لم نتفاجأ بالوفد الألمانى الجاهز بحقائبه للسفر إلى طهران فى اللحظة التالية لتوقيع الاتفاق.
ليس خافيا أيضا ما توصل إليه تيار من التيارات الأكاديمية الأمريكية منذ سنوات من أن الخطر الماثل لمصالح أمريكا وأمن مواقعها فى الشرق الأوسط آت من الجانب السنى وليس من الجانب الشيعى كما التصور الذى ساد وهيمن فى عواصم عدة. يعود الفضل فى هذا التحول، فى جانب منه على الأقل، إلى جماعة «المحافظون الجدد» إذ كانوا أول من دعا إلى إعادة رسم الخريطة الديموغرافية فى العراق أولا ثم فى بقية دول الهلال الخصيب لصالح اٌلطوائف غير السنية. أتصور ان هذا الاجتهاد تحديدا لم يجد أنصارا كثيرين إلا بعد ان هيمن التشدد الدينى والإرهاب على معظم أنحاء الشرق الأوسط، ومنذ أن بدا واضحا للولايات المتحدة أن ما يطلق عليه «إرهاب السنة» يفوق فى خطورته واتساعه ما يطلق عليه «إرهاب حزب الله» وأنشطة الحوثيين وغيرهم من القوى المحسوبة على المذهب الشيعى.
***
إن نسينا أو تجاهلنا بعض اسباب نجاح المفاوضات، فلن ننسى أو نتجاهل المستوى الرفيع لكفاءة المفاوضين، وبخاصة الإيرانى والأمريكى. يحسب مثلا للوزير جون كيرى انه قضى ثمانية عشر يوما يفاوض بدون انقطاع ومن ورائه فى واشنطن الرئيس أوباما يتابع ساعة بساعة، وهى المدة التى تزيد لعشرة أيام عن المدة التى استغرقتها مفاوضات يالتا وبيوم واحد عن المدة التى استغرقتها مفاوضات بوتسدام، وكلاهما انعقدتا خلال الحرب استعدادا لنظام عالمى جديد. كفاءة بدون شك وصبر وصمود وعناد فى ظل ظروف تفاوض قاسية، ليس اقلها قسوة تهديدات مستمرة بحرب إسرائيلية يمكن أن ينجر إليها الغرب، وعقوبات اقتصادية مرهقة وحرب أعصاب إعلامية عنيفة، وتوتر إقليمى تصاعد فجأة عندما تسارعت وتيرة الأمل لدى أطراف التفاوض بإمكان التوصل إلى اتفاق وشيك.
* * *
إن التوصل إلى اتفاق لا يعنى التوصل تلقائيا وبالضرورة إلى نهاية سعيدة لأزمات ومشكلات عديدة فى الشرق الأوسط تعتبر إيران والغرب أطراف أساسية فيها. أبدأ هنا بالمعضلة المصرية، ليس فقط لأن كاتب هذه السطور مصرى، ولكن لاعتقادى الراسخ ان «المسألة المصرية» وأقصد حال تراوح مصر بين الثورة وبعض تداعياتها باق معنا بدون حسم لأجل غير قصير. ما يهمنا تحديدا هو الاحتمال الكبير ان تكون إيران عادت تأمل فى أن تلعب مصر دورا فى التهدئة وتخفيف حدة التوتر، لتتيح لها، أى لإيران، فرصة المساهمة فى حوار إقليمى متعدد الأطراف. لا اعرف تماما وبالدقة الواجبة ان كانت القيادة الإيرانية تضع معضلة مصر فى صدارة المعضلات المترتبة على توقيع الاتفاق والمتفاقمة بسببه، ولكنى أتصور انها خلال تأهلها لدور هام فى صنع نظام اقليمى جديد سوف تضع فى حساباتها موقف مصر ورأى مصر ودور مصر، متمنية ان تكون حكومة مصر قد أصبح لها حينذاك هذا الموقف والرأى والدور.
***
المعضلة الثانية، وستظل معضلة لفترة غير قصيرة، هى الإرهاب. لن تستطيع إيران فى ظل أى وضع جديد يفرزه الاتفاق ان تعطى ظهرها للإرهاب. المثير فى هذه المعضلة، ومصدر ارتباك كثير من المجتهدين، هو انتظار اللحظة التى تنجح فيها أمريكا فى انشاء تحالف فارسى ــ عربى، أو باللغة الدارجة حاليا وعن تعمد واضح، تحالف شيعى سنى، لمحاربة إرهاب داعش، الذى هو إرهاب سنى الهوية والمذهب. لا أتصور ان المفاوض الأمريكى، مهما بلغت درجة مهارته وكفاءته، قادر على اقناع إيران عقد تحالفات مع القاعدة والنصرة وغيرهما من التنظيمات السنية شديدة التطرف لمواجهة فصيل سنى آخر أشد وحشية وكراهية، وإقناعها والمملكة السعودية بتولى مهام القيادة المشتركة لهذا الحلف. كذلك لا أتصور ان إيران، سوف تقبل ببساطة أو حتى بتفاوض طويل قصير أو طويل الأجل، وقف دعمها لعناصر التمرد، أو للقوى السياسية الشيعية، ليس فقط فى المنطقة العربية ولكن أيضا فى جنوب آسيا ووسطها، وان حدث فسيكون مقابل تغييرات جوهرية فى خريطة هذا الإقليم وتوازنات القوى فيه.
***
هناك أيضا معضلة الداخل الإيرانى. كثيرون يستبعدون ان تقدم القيادة الإيرانية على تحرير أجواء الممارسة السياسية والحقوق وحريات التنقل والسفر وتكوين أحزاب، وهو الأمل الذى يراود الرئيس أوباما وعناصر داخلية عديدة فى إيران. آخرون يتوقعون ان تدفع الثقة بالنفس وشعبية النظام الإيرانى فى اعقاب التوقيع على الاتفاق إلى إجراء عمليات تجديد وإصلاح تكسب بها إيران صدقية أكبر فى العالم الخارجى. هذه المعضلة قد تثبت أنها الأشد تعقيدا بالنسبة للقيادة الحاكمة فى إيران ولن تكون بأى حال أبسط أو أقل تعقيدا من مفاوضاتها مع الغرب حول النووى.
* * *
عديدة هى المعضلات الناتجة عن الاتفاق والمعضلات الموجودة أصلا وتفاقمت لحظة الإعلان عن توقيع الاتفاق. ومع ذلك لن نفقد تفاؤلنا بالدور البناء الذى يمكن ان يقوم به الاتفاق نحو مرحلة التقاط النفس وتهدئة الخواطر ووقف نزيف الدم والامتناع عن تبديد الثروات القومية فى صفقات لشراء السلاح.
***
البديل المطروح لهذا الأمل والتفاؤل مخيف وأكره أن أنهى به هذا المقال..

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved