معارك الثورة المتوازية

إبراهيم الهضيبى
إبراهيم الهضيبى

آخر تحديث: الجمعة 23 سبتمبر 2011 - 8:55 ص بتوقيت القاهرة

أتصور أن الانتخابات البرلمانية المقبلة إنما تكتسب أهميتها من كونها تمثل خطوة رئيسية فى طريق انتقال السلطة من جهة تملكتها بقوة الأمر الواقع إلى جهة تعبر بشكل أكبر عن الإرادة الشعبية الديمقراطية، وأتصور أن انصباب الجدل على التنافس الانتخابى بين الأطراف المختلفة يمثل حيادا عن هذا المقصد، والسبب فى تقديرى أن إيجاد جهة تعبر ديمقراطيا عن إرادة الشعب يستلزم أكثر من إجراء انتخابات برلمانية، فهناك أربعة ملفات يجب العمل عليها بالتوازى، لكى يكون البرلمان معبرا بأكبر قدر ممكن عن الشعب.

 

أول هذه الملفات هو السياق الحاكم للانتخابات، وفيه قضيتان رئيسيتان، أولاهما قضية الأمن الذى لم يتم إصلاح مؤسساته كما ينبغى، فلم تزل بعيدة عن مقاصد صيانة القانون وحفظ أمن المواطن، ولم تتم بعد إعادة هيكلة أجهزته بما يضمن عدم تدخلها فى الانتخابات لصالح مراكز القوى التقليدية فى المجتمع، وثانيتهما الإعلام، الذى لا يزال غير ديمقراطى فى بنيته فى القطاعين العام والخاص على حد سواء، فالقطاع العام لا يزال تابعا للمؤسسة التنفيذية فى الدولة التى تحدد سياساته وتعين رءوسه، وهى بالتالى قادرة على توجيهه، وأما القطاع الخاص فهو يعبر عن مصالح فئة محدودة من رجال الأعمال المسيطرين عليه، ولا يزال تدخل السلطة التنفيذية فيه حادا وباديا كما ظهر فى واقعة إغلاق قناة الجزيرة مباشر مصر، وبقاء الوضع على ما هو عليه فى هذين الملفين يعطى السلطة فرصة كبيرة فى التأثير على نتيجة الانتخابات باستخدام القوتين الخشنة والناعمة على التوالى.

 

الملف الثانى الذى ينبغى الالتفات إليه يتعلق بصلاحيات البرلمان المنتخب، والذى سيكون وقت انتخابه الجهة الوحيدة المنتخبة فى الدولة، ويفترض ــ بالتالى ــ أن تكون صلاحياته أوسع من صلاحيات الجهات غير المنتخبة الموجودة فى السلطة، إلا أن الإعلان الدستورى الصادر فى مارس المنصرم يقصر صلاحيات مجلس الشعب على التشريع، وإقرار السياسة العامة للدولة والموازنة العامة ومراقبة تنفيذها، فى حين يبقى فى يد المجلس العسكرى حقوقا اكتسبها من دستور 1971 الرئاسى، وأخرى كانت فى الأصل للبرلمان ثم تحولت إليه فى الإعلان الدستورى، أهمها فى هذا السياق تعيين الوزارة، وإصدار القوانين والاعتراض عليها، وإبرام المعاهدات والاتفاقيات الدولية التى تعتبر جزءا من النظام القانونى للدولة من دون الحاجة للتصديق البرلمانى عليها.

 

وخلاصة القول إن هذه النصوص تبقى المجلس العسكرى غير المنتخب أعلى يدا من البرلمان المنتخب، وهو ما يمثل عوارا ديمقراطيا ينبغى معالجته، خصوصا فى ظل الحديث عن استمرار المجلس العسكرى فى السلطة وتأجيل الانتخابات الرئاسية لحين إقرار الدستور الجديد، خلافا لما أعلنه المجلس سابقا من فتح باب الترشح للرئاسة فى ديسمبر، وتعديل هذه المواد الدستورية بما يتفق والديمقراطية لا يمثل قفزا على الإرادة الشعبية لأنها غير المواد التى تم إقرارها شعبيا فى الاستفتاء الدستورى فى مارس الماضى، وظنى أن فتح هذا الملف قبل إجراء الانتخابات ضرورى لأنه يبقيه بعيدا عن الحسابات السياسية للأطراف المختلفة الناتجة عن أدائها الانتخابى.

 

ثالث الملفات المستحقة للالتفات هى القوانين المنظمة للانتخابات، والتى تمثل الإطار الحاكم للعملية الانتخابية، وهى من ثم تحدد الملامح العامة للبرلمان المقبل، ومشروع القانون المقترح ــ والذى اعترضت عليه القوى السياسية كافة ــ يساوى بين مقاعد الانتخابات الفردية ومقاعد القائمة من حيث العدد، والثقافة السياسية المصرية ــ التى أنتجتها عقود القهر ــ تزيد من فرص التصويت على أسس عشائرية وأخرى تتعلق بالمال والنفوذ والخدمات فى الدوائر الفردية، ومن شأن ذلك إفراز برلمان لا يعبر عن توجهات سياسية بقدر ما يعبر عن خدمات ومصالح محلها الطبيعى المحليات لا البرلمان، وإذا كانت ثمة عقبات دستورية تحول دون إلغاء مقاعد الانتخابات الفردية فإن المصلحة الوطنية تقتضى تقليصها إلى أبعد مدى.

 

وهناك فى الملف ذاته قضية أخرى تتعلق بحجم دوائر القوائم، والتى قصرها القانون على أربعة مقاعد لأغلب الدوائر وستة للقليل منها، ولما كان التنسيق بين القوى السياسية يتم فى العادة على مقاعد الفئات فإن القانون يمنع عمليا التنسيق بين القوى السياسية إلا عن طريق تفريغ الدوائر، ثم إن صغر حجم دائرة القائمة بحيث لا تشمل إلا دائرتين أو ثلاثة من دوائر الفردى يبقى الباب مفتوحا لسلبيات الأخيرة لتمتد للأولى، وهو ما يعنى أننا ــ فى التحليل الأخير ــ أمام انتخابات فردية تعلى من الأهمية السياسية للعشائرية والخدمات على حساب المشروع السياسى، فى وقت نحتاج فيه لبرلمان تتدافع فيه المشروعات السياسية لبناء الوطن.

 

رابع الملفات يتعلق بالتحالفات الانتخابية، ويمثل تحديا رئيسا للقوى السياسية، إذ بينما تصطف وتقيم تحالفاتها على أساس الهوية فإن استطلاع مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية يشير إلى أن قضايا الأمن والاقتصاد تمثل الأولوية بالنسبة للغالبية العظمى من الناخبين، وبالتالى فإن التحالفات الانتخابية التى تعطى الشرعية السياسية لأصحاب الأغلبية فى البرلمان ينبغى أن تنبنى على أساس الموقف من هاتين القضيتين والقضايا المترتبة عليهما كالعلاقات الإقليمية والدولية، ولذلك ينبغى على القوى السياسية أن تتجاوز العراك فى أرضية الهوية لتصيغ مواقف أكثر وضوحا حيال تلك القضايا، وتبنى على أساسها تحالفاتها الانتخابية.

 

أتصور أن إنجاز الإصلاحات اللازمة على هذه الأصعدة جميعا قبل إجراء الانتخابات هو حلم بعيد المنال، خصوصا أن الحاجة لإجراء الانتخابات بصورة عاجلة صارت ملحة فى ظل زيادة الاحتقان الشعبى نتيجة لسوء الأداء السياسى لحكام مصر المؤقتين، وإصرارهم ــ بحكم ضرورات الواقع على افتراض حسن النية ــ على الدخول فى مساحات من الفعل السياسى تحتاج لأكثر من الشرعية الإدارية الاضطرارية المؤقتة التى حازوها، بيد أن العمل المتوازى على هذه الملفات مجتمعة، وتحقيق بعض التقدم فيها، يحسن من الظروف الموضوعية لإجراء انتخابات تعبر نتائجها عن الإرادة السياسية للشعب، وتفرز برلمانا قويا يمكن أن يساهم فى صياغة مشروع وطنى.

 

إن انتخابات البرلمان تمثل فى تقديرى معركة من معارك الثورة، لا ينبغى النظر إليها مبتورة عن سياقها، ولا ينبغى ــ فى ظل إدراك السياق ــ أن تنصب عليها كل الآمال فى تحقيق مقاصد الثورة، فمع أهمية إجرائها على نحو عاجل فإنها ستكون فى أفضل الأحوال خطوة منقوصة فى المسار الصحيح، ينبغى تقويمها باستمرار الفعل الشعبى الضاغط لتحقيق المصالح والأهداف، والمضى قدما فى العملية الديمقراطية التى تتميز بالقدرة على التعلم من أخطائها وتصحيحها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved