اللاعبون بنار الدستور

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأربعاء 23 سبتمبر 2015 - 8:10 ص بتوقيت القاهرة

المشي فى حقول الألغام مجازفة بالحياة.
يسرى ذلك على النظم بقدر ما يسرى على البشر.
إن لم تكن هناك خرائط تحدد أين مواضع الخطر فإن النتائج محتمة.
الإلحاح المبكر على تعديل الدستور دوس على ألغام وإنذار بانفجارات.
الدستور ليس وثيقة مقدسة غير أن الاستخفاف بالتبعات السياسية قضية أخرى.
أخطر النتائج رفع غطاء الشرعية عن النظام الحالى.
بأى تفكير سياسى هذه مجازفة.
وبأى تفكير أمنى فهو تهور.
القضية ليست أن تمر أو لا تمر أية تعديلات قد تقترح على البرلمان المقبل بقدر ما هى الدخول من جديد فى صراع مفتوح على طبيعة الدولة لا تحتمله مصر المنهكة.
وفق خريطة المستقبل تنتهى المرحلة الانتقالية الثانية بالانتخابات النيابية غير أن ما هو مفترض قد يتبدد بأسرع من أى توقع ونعود إلى نقطة الصفر من جديد.
المؤسسات الحديثة تكتسب قوتها من احترامها للقواعد الدستورية.
الاستخفاف بالقواعد دعوة معلنة لاضطرابات سياسية.
وفى العودة إلى ما قبل يناير تحريض على الانهيارات.
لم يعد ممكنا حكم مصر بالطريقة التى كانت تحكم بها من قبل.
لقد دفعت ثمنا سياسيا وإنسانيا باهظا للتحول إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة.
بقدر الأثمان التى دفعت يصعب الرهان على تعديل الدستور قبل تطبيقه بلا كلفة ثقيلة.
من أخطر النتائج المتوقعة قلب المعادلات السياسية بالكامل.
كتل التململ الحرجة قد تتحرك بالقرب من كتل النار.
فى اقتراب الكتلتين إنذار مبكر إغفاله سذاجة سياسية.
الذين يستشعرون الحرج من رفع سقف انتقاداتهم للأوضاع الحالية بالنظر إلى الحرب مع الإرهاب قد يراجعون أنفسهم.
وهذا طبيعى على المستويين السياسى والإنسانى.
فقد أفلتت الحملات الممنهجة ضد الدستور من أى سقف وأخذت تسب وتشتم فى لجنة «الخمسين» التى صاغته قبل أن تدفع به إلى الاستفتاء.
فى النيل العشوائى من الدستور نيل اخر من رؤى وتصورات أغلبية الطبقة الوسطى المدينية وجماعات المثقفين والشباب لصورة الدولة التى دعتهم لإطاحة جماعة الإخوان المسلمين فى (٣٠) يونيو.
الشتم نفسه يرتب شعورا عميقا بالخديعة.
والإفراط فى اتهامات التآمر والخيانة تناقض إفراطا آخر لم تمض عليه سوى شهور قليلة فى التهليل والرقص أمام مراكز الاستفتاء وعلى الفضائيات.
الذين يدعون لتعديل الدستور الآن هم أول من هللوا ورقصوا.
خسارة المصداقية أحد النتائج الخطيرة لحملة تعديلات الدستور.
وهذا يمس الرئيس مباشرة ومن واجبه نحو نفسه قبل الآخرين أن يتحدث وينفى صلته بالحملة وأصحابها ولغتها المنفلتة.
النفى بذاته تأكيد للشرعية فالحملة فيما ذهبت إليه انقلاب سياسى على ثورتى «يناير» و«يونيو» وما تبنتاه من دعوات لبناء دولة مدنية حديثة.
فى ردات الفعل أى رهان على الحاضر سوف يتبدد كلية بلا أمل فى إصلاح من الداخل ولا فى تصويب مسار.
انقطاع الأمل هو أسوأ ما يعترض أى نظام سياسى.
ما هو سائل فى الحياة السياسية سوف يتحول إلى كتل صلبة تجد قضيتها المشتركة فى الدفاع عن الدستور.
كل ما هو متململ سياسيا أو متذمر اجتماعيا سوف يصب طاقة غضبه فى هذه القضية قبل غيرها.
طاقات الغضب تجمعت ضد الرئيس الأسبق «حسنى مبارك» فى نقطة تركيز عنوانها «سيناريو التوريث».
وطاقات الغضب تجمعت مرة أخرى ضد خلفه «محمد مرسى» فى نقطة تركيز أخرى عنوانها الإعلان الدستورى.
لا يمكن استبعاد سيناريو مشابه تحت نقطة تركيز جديدة عنوانها العدوان على الدستور.
لا يصح تكرار الخطأ نفسه لمرة ثالثة فمصر لا تحتمل إخفاقا جديدا أو مرحلة انتقالية ثالثة.
بالكاد وقفت على قدميها ومن حقها أن تتطلع لمستقبلها بثقة لا جرها إلى الخلف.
التنكيل بـ«يناير» يدفع بالتدريج للتسامح مع أخطاء وخطايا جماعة الإخوان المسلمين.
بعض الوجوه التى تنكل تدفع لبعض التسامح مع الجماعة.
سوف يتسع هذا المنحى باستطراد التوغل فى الشتم والجهل بالتاريخ.
لكل فعل رد فعل والنتائج معروفة مسبقا.
لا يصح إهدار دروس التاريخ التى مازالت ماثلة فى المشهد العام.
العودة إلى الماضى مستحيلة بدون أثمان باهظة.
بصراحة كاملة دستور (٢٠١٤) الإنجاز الأكثر لمعانا واحتراما لـ«يونيو».
وهو الشاهد الوحيد على انتسابها لـ«يناير» وليست انقلابا عليها.
إنفاذ الدستور قبل تعديله مسألة شرعية تنفى الماضى وتؤسس للمستقبل.
أى تخل محتمل للبرلمان عن صلاحياته التى خولها له الدستور فى محاسبة السلطة التنفيذية انتحار سياسى فى ميدان عام أو من فوق برج القاهرة.
إذا فعل ذلك فهو بيقين البرلمان الأسوأ فى التاريخ المصرى كله.
سقوطه التاريخى قبل سقوطه الفعلى.
مصر تغيرت بعمق وأى محاولة لإعادة عجلة الزمن إلى الخلف محكوم عليها بالإخفاق.
ننسى أحيانا أن العالم يتابع ما يجرى هنا.
لغة الحوار لا تدعو إلى أى احترام ولا تشجع على أى رهان.
فى الصراخ الإعلامى أزمة مستحكمة تنذر بخسارات متوقعة فى الإقليم والعالم.
عندما تفتقد بفداحة أية رؤية تلهم وأى نموذج يحترم يصعب أن يكون لديك دور فى إقليمك مهما كان تاريخك فيه.
قضية الدستور من هذه الزاوية تضرب مباشرة فى المصالح المصرية العليا فى الإقليم الذى يرتبط مصيرنا بمستقبله.
وبالقدر نفسه تضرب فى صورة مصر فى عالمها وتنال من صورة رئاستها بقسوة.
بتعبير «بيير فرديناندو كازينى» رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الإيطالى الذى زار القاهرة والتقى الرئيس ووزير الخارجية ونخبة من الشخصيات العامة قبل حمى الحملة على الدستور مباشرة: «الوضع ليس سهلا ولكنى أستطيع أن اتفهم الانتقادات».
لم يخف الرهانات الإيطالية على «السيسى» «نحن نحتاجه» غير أنه أعرب عن شىء من القلق على المستقبل السياسى المصرى.
المصالح تحكم فى النهاية غير أن لها حدودا.
عندما تضعف مناعتك الداخلية فالضغوط عليك سوف تزداد.
هذه حقيقة مفزعة تنتظر مصر عند منعطف الطريق.
تعديل الدستور عمل انتحارى والنفى الرئاسى إطفاء للنار قبل أن تلتهم البنيان كله.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved