عن الحروب العربية ضد الذات: دول المشرق تتهاوى فتأكلها الطوائف

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 23 سبتمبر 2015 - 8:10 ص بتوقيت القاهرة

يغرق المشرق العربى عموما من الساحل السورى على البحر الأبيض المتوسط وحتى الحديدة فى اليمن على ساحل البحر الأحمر، بدماء أبنائه... من دون أن ننسى ما يسيل من دماء فى الحرب على الإرهاب فى مصر بعنوان سيناء وعبر عمليات متفرقة فى القاهرة وأنحاء أخرى فى عمق الصعيد وصولا إلى السياح فى الأقصر.

أما فى ليبيا التى ضاعت معالم خريطتها بعد أن مزقتها حروب القبائل والأعراق، فقد فاقم من خطورتها المذابح المنظمة التى ترتكبها «داعش».. وصولا إلى تونس التى تهزها بين الحين والآخر عملية قتل جماعية تستهدف دولتها التى لم يستقر الحكم فيها بعد على صيغة تلبى تطلعات الانتفاضة المجيدة التى حملت اسم من أطلقها بإحراق نفسه محمد البوعزيزى.

وبالتأكيد فإن ما يتكبده العرب من خسائر فى الأرواح وأسباب العمران فى هذه «الحروب ضد الذات»، بمعزل عن الأسباب المباشرة لكل منها، وتأثيرات دول الخارج فيها، تزيد أضعافا مضاعفة عما تكبدته هذه الشعوب فى انتفاضاتها منذ بداية القرن الماضى من أجل استعادة هويتها القومية ولو فى كيانات سياسية متنافرة رسمتها المصالح الأجنبية دولا شتى تحمل فى أحشائها أسباب تشققها وتصادمها بما يبقيها هشة على الدوام.

بالمقابل فإن النظام فى لبنان، الذى كان وما يزال وسيبقى معاديا لطموحات شعبه، برغم البريق الذى يستمده عبر مقارنته بالأنظمة الحاكمة فى دول عربية أخرى، فإنه يستعصى على السقوط حتى لو كان الشعب بغالبيته يعارضه ويعترض عليه وينادى بإسقاطه... لأن هذا النظام «مدول» تماما على غرار «الكيان»، فكلاهما يبرر الآخر ويبقى ببقائه، قد يهتز وقد يتهالك، ولكنه لا يسقط.. والبقاء لله!

***
إن الحرب فى سوريا وعليها تجاوزت فى مخاطرها الآثار المدمرة للنزيف الدموى اليومى على صورة الدولة إلى تهديد الوحدة الوطنية للشعب السورى الذى كان على الدوام طليعة فى نضال أمته من أجل الحرية والاستقلال الوطنى والوحدة القومية..

وبالتأكيد فإن الصور التى تطالعنا على مدى الساعة لطوابير الهاربين من أوطانهم المهددة فى وجودها، وأولها سوريا، تشير إلى أن سوريا التى عرفناها على امتداد قرن كامل لن تعود هى هى، حتى لو توقفت الحرب فيها وعليها اليوم أو غدا.

لقد اختلف كل شىء فى هذه الدولة التى عاشت قلقة على الدوام.. فشعبها الذى كان طليعة الحركة القومية العربية بهدف الوحدة أو الاتحاد قد عاد أو أنه مهدد بالعودة إلى عناصر تكوينه الأولى: لم يعد، فى نظر نفسه أو فى نظر العالم، شعبا واحدا موحدا وراء طموحه إلى غد عربى أفضل، أو إلى دولة قوية وقائدة أو فى أقل تقدير، دولة مؤثرة فى محيطها، بل إن «العالم» يراه الآن وقد تفكك إلى عناصره الأولى «قوميا»: عرب بدو وحضر وأكراد وسريان وتركمان إلخ ثم إلى «سنة» و«علويين» و«مسيحيين أرثوذكس» فى غالبيتهم، ثم «دروز» و«إسماعيليين» و«شيعة» إضافة إلى أقليات أخرى، «يزيديين» و«صابئة» امتدادا لأشقائهم فى العراق.

.. ثم ان الشعب السورى لم يعد، بكتلته العظمى، مقيما حيث كان يعيش آمنا منذ مئات السنين. إنه الآن مقسم وموزع على أماكن لجوء عديدة «فى الداخل»، إذ نزح بعضه من مناطق الاشتباك، التى تتسع خريطتها باستمرار، إلى مناطق اعتبرها ــ فى لحظة ما ــ آمنة، كما نزح بعض آخر إلى دول الجوار، لبنان (نحو مليون ونصف المليون) والأردن (نحو المليون) وتركيا (أكثر من مليون يضاف إليهم مليون آخر ممن يحاولون العبور منها إلى أى مكان يقبلهم فى أوروبا، كلاجئين...).

هذا لا يعنى أن من تبقى من السوريين يعيشون بأمان، حيث كانوا دائما داخل وطنهم، فالحرب قد بدلت فى الخريطة السكانية تبديلا خطيرا، فانتقلت مجاميع من أهالى الشمال السورى (حلب وإدلب وجسر الشغور إلخ) إلى «الساحل» وتحديدا اللاذقية وطرطوس وبانياس، كما نزحت مجاميع أخرى من الجنوب (درعا وسائر حوران) إلى دمشق وضواحيها.

هذا عن سوريا فماذا عن العراق؟

***
لم تتدهور الأوضاع الأمنية فى العراق إلى حد الغرق فى الحرب الأهلية، لكنه على حافتها... وإذا كان تنظيم «الدولة الإسلامية فى العراق والشام» قد وصل إلى العراق قادما ـ بطلائعه ـ من سوريا، فإن «كتائب» و«فرق» أخرى قد دخلت من تركيا.. على أن كتلة لا يستهان بها من المقاتلين كانت تنتظره فى العراق ذاته، وهى تضم مجاميع من رجال عهد صدام حسين (البعثيين) والكثير من العسكريين الذين تم تسريحهم بعد الغزو الأمريكى، وفى ظل الحكم الذى ورث «صدام» والذى دمِغ بطائفية مضادة، وكأن «الشيعة» قد ورثوا «السنة» بمساعدة قوات الاحتلال الأمريكى.

ثم أن عراق ما بعد حروب صدام حسين كان مدمر العمران، ودولته مفككة وجيشه شبه منحل، وإدارته فاسدة مفسدة، تحت ستار الانتقام من «عهد الطغيان»، دخله من النفط منهوب، وكل ما يتصل بالصناعة ـ حتى النفطية ـ معطل، والانشقاق الشعبى مريع ومناخ الحرب الأهلية يتكاثف مهددا وحدة الدولة أرضا وشعبا.

.. ومع اجتياحات «داعش» التى أخذت الموصل بلا قتال، وتقدمت فى اتجاه بغداد، محاطة بترحيب بارد، أو أقله عدم اعتراض، فى المناطق ذات الأكثرية السنية، وتحت شعار «عدو عدوى حليفى»، تعاظم الشرخ بين العراقيين، وصارت الطائفية استثمارا مجزيا، فاتحة الأبواب أمام المزيد من التدخل الخارجى (تركيا والسعودية وبعض الخليج نصرة للسنة عموما وللنزعة الاستقلالية عند الأكراد خصوصا.. ثم إيران التى تختزن مشاعر ثأر قديم من غير السهل تجاوزه تجاه عراق صدام حسين وجيشه، والذى تم تسييسه عبر السعى لتوحيد الشيعة وتمكينهم من السلطة تحت رعاية مباشرة من بعض قادة الحرس الثورى الإيرانى، أو القيادة السياسية ـ الدينية فى طهران متى تعلق الأمر بإعادة تركيب مؤسسات السلطة وأجهزتها العسكرية والأمنية فى بغداد..).
وبديهى أنه ما كان بإمكان الدكتور حيدر العبادى أن يتقدم لوراثة نورى المالكى (وكلاهما ينتميان إلى التنظيم السياسى الشيعى ذاته) لخلافة «رفيقه» لولا مباركة طهران.

كذلك فمن البديهى أن يجد العبادى نفسه عاجزا عن إكمال «انقلابه» الذى باشره بإلغاء مناصب سامية (نواب رئيس الجمهورية) ودمج وزارات، وإعادة تنظيم الجيش بما يفتح الباب لتعزيز دور «السنة» فيه كما فى «الحرس الشعبى»، وفى الإدارة عموما، مع تقنين صارم للإنفاق الحكومى، ومحاولة حماية الدخل النفطى الذى تراجع بشكل ملحوظ مع تراجع سعر النفط عالميا.
على هذا فالعراق الذى كان غنيا بات مفقرا، خزينته فارغة، والدخل القومى بات أقل من الاحتياج، ولا بد من مشروع جبار لإعادة الإعمار، بدءا بالجيش وسائر مؤسسات الدولة، والالتفات إلى المناطق التى كانت مهملة تاريخيا... وكذلك لا بد من حلول سريعة وجدية للتراكم البشرى فى العاصمة بغداد، التى هربت إليها جموع الفقراء من مختلف المناطق، بحيث صارت ضاحية «الثورة» مدينة كبرى يعد قاطنوها بأكثر من عشرة ملايين مواطن، أى ما يساوى ضعف سكان العاصمة بغداد، بينما يغرق الريف الذى يشقه نهران كبيران فى الفقر والإهمال والتعاسة التى تفتح الباب أمام «الإرهاب الغنى» كالذى تمثله «داعش» أو المنظمات التى أقيمت على عجل بذريعة مواجهتها.
على هذا فإن قلب المشرق العربى، بل ربما أمكن القول «قلب الوطن العربى» ممثلا بسوريا والعراق، يعيش مأساة فظيعة لم يسبق لها مثيل: ينزف دماء أهله وعمرانه وخيراته، ولا يجد من يساعده على الخروج من هذا النفق الدموى المفتوح على المجهول.
***
.. ولكى تكتمل المأساة فصولا فقد جاءت الحرب السعودية (ومعها دول مجلس التعاون الخليجى) على اليمن.. وهى حرب شرسة بأخطر الأسلحة تطورا، بما يعكس غنى الطرف الذى أقدم عليها فى مواجهة الدولة الأفقر بين العرب، والتى يعانى شعبها من تداعيات الانقسام السياسى الذى بلغ، فى مراحل معينة، حدود الحرب الأهلية. والحرب الجديدة لا توفر سلاحا حديثا (أغلى الطائرات الحربية والصواريخ فى العالم) فى قتال أفقر شعوب الأرض.

وإذا كانت السعودية قد أخفقت فى جعل الحرب «عربية» ضد الشعب الأعرق فى عروبته من بين أشقائه جميعا، فإنها قد نجحت فى تجسيم الانشقاق إلى حد التبعثر والضياع فى الصف العربى الذى لم يعد صفا واحدا بل لعله أقرب لأن يكون صفوفا متواجهة... ففى سوريا تقاتل بعض الأنظمة العربية النظام فى دمشق، وكذلك فى بغداد، وكذلك فى ليبيا وتونس (وإن بنسبة أقل)، وحتى فى مصر فإن التنظيمات الإرهابية التى تقاتل فى سيناء تجد لها مددا «عربيا» بصورة أو بأخرى.

أما لبنان الذى يكاد يكون بلا دولة فينتظر أن يحظى بلفتة تساعده على استعادة استقراره المهدد برياح الحرب الأهلية العربية التى تجتاح المنطقة جميعا، بما يجعل دولة العدو الإسرائيلى الأكثر استقرارا ورخاء، لا سيما مع الاكتشافات الجديدة فى مجالات النفط والغاز المسروقة، من مكامن الثروة الوطنية لفلسطين تحت احتلالها ولبنان المحاصر بأزماته التى لا تجد من يحلها وسوريا الغارقة فى الحرب فيها وعليها، وصولا إلى مصر التى نجحت فى استنقاذ الحقل الأكبر للغاز بمصادفة قدرية.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved