مأزق الدستور والتأسيسية.. هل تحله المحكمة اليوم؟

زياد بهاء الدين
زياد بهاء الدين

آخر تحديث: الثلاثاء 23 أكتوبر 2012 - 8:20 ص بتوقيت القاهرة

اليوم تصدر المحكمة الإدارية حكمها فى صحة أو بطلان تشكيل الجمعية التأسيسية الثانية. والحكم المرتقب (ما لم يتم تأجيله مرة أخرى) يأتى فى ظروف مختلفة تماما عن تلك التى أحاطت بحل الجمعية الأولى. فالجمعية التأسيسية هذه المرة قطعت شوطا كبيرا فى عملها وأصدرت بالفعل مسودة شبه كاملة للدستور المقترح، كما أن حلها ــ لو صدر حكم بذلك ــ لن يترتب عليه إعادة اختيار مائة عضو جدد بواسطة أعضاء البرلمان بل يصبح الأمر بيد رئيس الجمهورية ويكون له وحده اختيار أعضاء الجمعية الثالثة. لذلك فلا عجب أن تكون الأطراف كلها ــ الأحزاب والحكومة والإعلام والرأى العام ــ فى حالة ترقب للحكم باهتمام بالغ لأنه يعنى إما استمرار الجمعية التى أوشك عملها أن ينتهى أو العودة مرة أخرى إلى نقطة البداية. مع ذلك فإن الحكم ــ فى تقديرى الخاص وأيا كانت نتيجته ــ ليس هو المشكلة الرئيسية فى الوقت الحالى لأن البلد صار للأسف الشديد فى وضع متأزم بسبب هذه الجمعية وبسبب مشروع الدستور الذى تعده، وهو وضع لن يحله صدور حكم بصحة أو ببطلان تشكيل الجمعية.

 

ما الذى أقصده بالوضع المتأزم؟ المقصود أن الدستور الذى تردد على لسان كل الأطراف أنه يجب أن يكون نصا توافقيا، يجتمع عليه الرأى العام، ويمثل ضمير الأمة، ويعبر عن رؤية وفلسفة جامعة للشعب ولما يطمح إليه من حقوق وحريات، تحول إلى موضوع خلافى إلى أقصى درجة وإلى تعبير صارخ عن انقسام المجتمع وعن غياب التوافق المنشود. الحزب الحاكم ومعه أحزاب أخرى ممثلة فى الجمعية التأسيسية ومن ورائها جمهور واسع تدفع بالانتهاء من الدستور بناء على النص المقترح وبعض التعديلات الممكنة. ولكن على الجانب الآخر فإن مساحة الاحتجاج على مشروع الدستور تتسع. فالدستور المقترح ــ وفقا للمنشور فى الإعلام ــ محل رفض من التيار السلفى، وغير مقبول من الأحزاب المدنية واليسارية والقومية، ومحل انتقاد من المحكمة الدستورية العليا ومن دوائر قضائية أخرى، وترفضه الجمعيات النسائية على اختلاف توجهاتها، ويتوجس منه المسيحيون، ويهدد بعض أعضاء الجمعية التأسيسية التى وضعته بالانسحاب منها، وبالطبع فإن القنوات الفضائية تشتعل بالمناظرات والمصارعات بين من يؤيدونه ومن يرفضونه. وللأسف أن هذا كله كان يمكن اعتباره حوارا صحيا ومفيدا لإثراء الجدل الدستورى لولا أنه يحدث فى مناخ عام من التخوين والتكفير والاتهامات المتبادلة بين كل الأطراف بما لا يقيم حوارا جادا بل يؤجج الشعور بالأزمة ويقطع جسور التفاهم.

 

النتيجة أن الدستور، حتى لو صدر الحكم بصحة تشكيل جمعيته التأسيسية، لن يأتى معبرا عن التوافق والإجماع الضروريين، بل عن الحد الأدنى من الاتفاق، وعن توازنات ومناورات سياسية، وعن مساومات حتى اللحظة الأخيرة، وهذا كله قد يصلح فى تشريع عادى أو فى تقسيم دوائر أو فى توزيع مناصب، ولكنه لا يجوز فى كتابة الدساتير. من هنا اعتقادى بأن ما يسفر عنه حكم المحكمة اليوم ستكون له نتائج هامة ولكنه لن يحد من الشرخ الحادث فى وحدة المجتمع وفى تماسكه وفى قدرته على التوافق، وهذا هو الأهم.

 

أسباب وصولنا إلى هذا الوضع المتردى كثيرة ومتراكمة. المسار الدستورى المعيب الذى سلكناه منذ إعلان ٣٠ مارس فى العام الماضى. وتشكيل الجمعية الثانية الذى جاء بعيدا كل البعد عن التوازن والتمثيل المتكافئ والتنوع فى الخبرات. أما «المنتج» الصادر عن الجمعية فقد جاء مخيبا للآمال: فالنص المتاح حاليا لا يحسم قضية الشريعة وموقعها فى التشريع حسما واضحا بل يثير المزيد من الغموض، والحقوق والحريات الرئيسية التى تسن الدساتير من أجل حمايتها غير واضحة ولا قاطعة بشكل كاف، والمرأة ليست على مساواة واضحة مع الرجل، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية لا تعدو أن تكون جملا إنشائية لا تحقق مكسبا ملموسا للمواطنين، ومجلس الشيوخ غير واضح الدور والصلاحية، والجهات الرقابية غير محددة المعالم، ثم فوق هذا كله يأتى نص بحظر تعديل الدستور لمدة عشر سنوات وكأن هناك حاجة لتحصينه حتى من إرادة الشعب نفسه.

 

نحن فى مأزق لن يخرجنا منه حكم المحكمة أيا كانت نتيجته. فالموضوع لم يعد يتعلق بصياغات قانونية يمكن تحسينها، أو بمواد يمكن التفاوض على إضافتها، بل بعدم إمكان صدور دستور توافقى فى ظل حالة الانقسام والاستقطاب والتوتر التى يعيشها المجتمع والتى تجعل كل موضوع خلافى يتحول إلى حلبة جديدة للمصارعة السياسية. ما العمل إذن والبدائل قليلة ولكل منها عيوبه؟ استمرار الجمعية على نهجها الحالى (لو صدر الحكم بصحة تشكيلها) لن ينتج الا دستورا منقوصا ومعيبا وخلافيا إلى أبعد الحدود. والبدء من جديد (لو صدر الحكم ببطلان تشكيل الجمعية) قد يأتى بنتائج أفضل ولكن يجب أن نقبل معه إطالة المسار الدستورى وتأجيل الانتخابات البرلمانية واستمرار سلطة التشريع بيد رئيس الجمهورية منفردا. والعودة لدستور ٧١ تعنى الاعتراف بأنه لا شىء قد تغير. أما اللجوء لنص دستورى مختصر ومؤقت فلن يكون أكثر سهولة لأن التوافق على أحكامه لن يكون ممكنا فى ظل الأجواء السياسية الملبدة. المدخل السليم هو ألا نعتبر حكم اليوم فاصلا فى انتصار فريق على فريق منافس لأن الموضوع أخطر من أن يكون سجالا ومباراة يكسبها تيار سياسى على خصومه. نحن أمام أزمة حقيقية فى الحوار وفى الثقة وفى التعاون بين الأطراف بينما طبيعة القضايا والمشكلات التى تواجه الوطن اليوم لا يمكن أن يتصدى لها تيار سياسى واحد مهما كانت قدرته على الحشد فى الميادين وعلى الظهور الإعلامى وعلى الفوز بالأصوات الانتخابية. سواء صدر الحكم بحل الجمعية التأسيسية أم ببقائها، فإن هناك «هدنة» واجبة بين التيارات السياسية الرئيسية، يتم التعرف فيها على أوجه التعاون وأوجه الخلاف، ويتم تحديد أولويات إنقاذ الوطن لا تكون محلا للشك، ويتم تهيئة مناخ مختلف يسمح بالتنافس بين القوى السياسية ولكن فى إطار الصالح العام. فقط فى هذه الظروف يمكن الانتهاء (أو البدء) فى كتابة الدستور، وفى معالجة القضايا الاقتصادية الملحة، وفى إعطاء الناس بعض الأمل بأن تضحياتهم كانت مقابل تقدم حقيقى للبلد.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved