قيود على حرية الإتصالات

عمرو غربية
عمرو غربية

آخر تحديث: الثلاثاء 23 أكتوبر 2012 - 12:53 م بتوقيت القاهرة

"أيوة بنراقب، واللي خايف ما يتكلمش"-- حبيب العادلي 2005

باغتياله رئيس الوزراء المصري بطرس غالي باشا في 20 فبراير 1910، افتتح الناشط في الحركة الوطنية إبراهيم ناصف الورداني تاريخ الاغتيالات السياسية في مصر، ودفع الإنجليز دفعا للتفكير في إنشاء أول جهاز أمن قومي مصري. فكان أن أولى جورج هارفي باشا حكمدار القاهرة مهمة إنشاء "المكتب المركزي الخاص" إلى جورج فيليبيديس بك.

 

في 1912 تمثلت أولى نجاحات المكتب المركزي الخاص في إحباط محاولة اغتيال اللورد كيتشنر القنصل العام البريطاني وقتها، إلا أن نجاح المكتب المركزي الخاص ذاك شابته اتهامات بالحصول على المعلومات تحت التعذيب وبتزوير فيليبيديس بك للأدلة ضد المقدمين للمحاكمة، وبتسليم ناشط مصري وزع منشورات تحرض ضد الإنجليز في الآستانة. أدان الإنجليز فيليبيديس بعد ذلك وحكم عليه في 1917 بالحبس خمس سنوات وبالغرامة.

 

بالإضافة إلى إنشاء المكتب المركزي الخاص، وهو سلف كل أجهزة الأمن القومي في مصر، كانت نتيجة أخرى لصعود الحركة الوطنية في البلاد هي قانون التظاهر نمرة 10 لسنة 1914. يجرم القانون، الذي لا يزال ساريا حتى اليوم، تجمع أي خمسة إذا هددوا بتجمعهم هذا شيئا اسمه "السلم العام". أنا شخصيا لا أعرف بدقة ما هو ذلك "السلم العام"، وبالتالي فأنا لا أعرف إن كنت أخالف القانون بالتجمع مع أربعة آخرين أم لا.

 

وبالرغم من المكتب المركزي الخاص ومن قانون التظاهر سيء السمعة، وصلت الحركة الوطنية المصرية ذروتها في ثورة مجيدة فقدنا فيها حوالي الألف شهيد بين شهري مارس ومايو 1919. ومن وقت إصداره، استخدم كل الحكام في مصر، من الفيلد مارشال كيتشنر إلى الفيلد مارشال طنطاوي، قانون التظاهر ضد جماهير المصريين المطالبين بحقوقهم وبالاستقلال؛ كل الحكام بمن فيهم سعد زغلول رئيس أكبر حزب مصري، والذي لم يكن ليصل سدة الحكم دون الثورة الشعبية.

 

قانون التظاهر مفيد جدا للحكام، فهو يجرم شيئا مشروع فعله كالوقوف على الناصية مثلا، ويوقف ذلك التجريم على عبارة فضفاضة هي "السلم العام" تجعل الشخص المتوسط لا يعرف إن كان يخالف القانون أم لا. يمتلئ التقليد القانوني المصري بعبارات مثل هذه: "النظام العام"، و"الآداب العامة"، و"الأمن القومي"، و"ازدراء الأديان"، و"حرية العمل"، وهي عبارات لا تدل على شيء بعينه ولا تلائم القانون الذي يفترض أنه "ليس في لغته الشفق، ولا يعرف الغسق". تصير هذه الجرائم الغامضة كشبكة الصياد يرميها على من يرغب.

 

إلا أن هذا ليس أسوأ ما في القانون المصري، ففيه ما يجرم أفعالا مشروعة تماما دون تعليقها على أية شروط فضفاضة حتى. خذ مثلا قانون الاتصالات الحالي: هل قرأت بريدك الإلكتروني اليوم؟ هل طالعت حسابك على فايسبوك أو تويتر؟ هل استعملت خدمة بنكية أو اشتريت شيئا على إنترنت؟ هل استخدمت تقنيات تحافظ على خصوصيتك كتور TOR أو بي جي بي PGP؟ إن كنت فعلت، فقد استخدمت واحدة من تقنيات متعددة للتعمية (تشفير الاتصالات)، وإن كنت لم تحصل على إذن مسبق من جهاز تنظيم الاتصالات ومن القوات المسلحة ومن أجهزة الأمن القومي (علشان تدخل على فايسبوك) فقد خالفت أحكام المادة 64 من قانون الاتصالات الواردة في باب الأمن القومي، لأنك استخدمت جهازا هو هاتفك أو حاسوبك في تشفير الاتصالات، وبالتالي فينبغي في دولة القانون أن يحكم عليك بالحبس الوجوبي وغرامة من عشرة آلاف إلى مئة ألف  جنيه.

 

القانون المصري يجعلنا كلنا من معتادي الإجرام، لأنه يجرم أشياء مشروعة. فكلنا نقف على النواصي مع أربعة آخرين، وكلنا نخالف النظام العام والأمن القومي لأننا لا نعرف ما هي تلك الأشياء، وكلنا، بمن فينا الرئيس مرسي، يستعمل تويتر (هو أنا كدا أبقى سلمت البرادعي؟). إلا أن المعنيين بإنفاذ القانون لا يطبقون تلك المواد المستحيلة على كل الناس. الحكام وأجهزة الأمن منذ أيام اللورد كيتشنر، يعرفون جيدا أن هذه المواد تطبق اختيارا على بعض الناس، وتظل سيفا مسلطا على عنق من يرغب في ممارسة حقه وحماية خصوصيته. من حقك قانونا أن تكتب خطابا بريديا "بالسيم" و تضعه في مظروف وترسله، لكن ليس من حقك أن ترسل بريد إلكترونيا بالسيم.

 

5 مارس 2011 كان من أسعد أيام حياتي، ففيه أسقط آلاف الثوار مقر مباحث أمن الدولة في مدينة نصر بالقاهرة. ليلتها، سلمتني إحدى الناشطات ملفا يحوي مخاطبات داخلية بين إدارات أمن الدولة بخصوص شراء نظام تنصت على الاتصالات اسمه فنفشر FinFisher. يزرع هذا النظام برمجيات خفية على حواسيبنا وهواتفنا دون إذننا، ويسمح ليس فقط بالتنصت على المكالمات والاتصالات التي نجريها، لكنه بالإضافة يمكن آخرين من التحكم في الكاميرات والميكروفونات في أجهزتنا واستخدامها حتى إن لم نكن نجري مكالمات بها. كان ضمن الأوراق ما يشرح الإمكانيات التقنية وعرضا ماليا من شركة جاما Gamma البريطانية-الألمانية يشمل حق استخدام البرمجية لثلاث سنوات، وتدريب أربعة من الضباط على تشغيلها مقابل 388,604 ألف يورو. وبالفعل، استخدمت مباحث أمن الدولة نسخة تجريبية مجانية من البرنامج لمدة خمسة شهور.

 

أدى نشر هذه الأوراق (بالمناسبة، ماذا جرى للمستندات التي أمر المجلس العسكري بتسليمها إلى النائب العام قبل أن يحاسب من يمتنع؟) إلى اهتمام عالمي بالشركة وبمنتجاتها، وبدأ المهتمون بموضوعات الاتصالات والخصوصية في العالم المطالبة بأن تفرض الحكومات التي تصدِّر شركات في بلادها مثل تلك الأنظمة قيودا على تصدير أنظمة "ما يدعى بالتنصت المشروع" so-called lawful intercept تماثل القيود الأكثر تشددا التي تفرض على تصدير الأسلحة. ليس هذا رضاء عن قيود تصدير الأسلحة الحالية.

 

حدث بعد ذلك أن كشف باحثين عن استخدام النظام البحريني منتجات نفس الشركة للتنصت على ثوار البحرين المسكوت عن ثورتهم، وأدى تحليل البيانات التي حصل عليها الباحثين إلى فهم أفضل لتقنيات شركة جاما، وبعد زيادة ضغط الرأي العام عليها وعلى حكومات الديمقراطيات الغربية، بدأت خواديم جاما في الاختفاء من على إنترنت في عشرة بلدان قمعية، وبدأ كبار المسؤولين الحكوميين في بريطانيا وألمانيا وبلاد أوربية أخرى يدعون إلى تغيير قواعد المفوضية الأوربية لتصدير تقنيات التنصت، وبدأت المحاكم تنظر في شكاوى مقدمة في حق تلك الشركات. في حديثه الأخير أمام مؤتمر الإنترنت و حقوق الإنسان في برلين سبتمبر الماضي، صرح وزير الخارجية الألماني جيدو فسترفيله أن "الفضاء الإلكتروني يتيح للنشطاء السياسيين الفرصة للتنظيم، وفي نفس الوقت فأدوات الإعلام الاجتماعي قابلة للاختراق. بإمكان تقنيات التنصت مراقبة مرسلي ومستقبلي المعلومات السياسية، و بإمكان الحكومات القمعية استخدام إنترنت لإجهاض القوى السياسية المعارضة، وخداعها، بل وحتى تحديد أعضائها والقبض عليهم. يواجه النشطاء السياسيون في البلدان القمعية بتهديد أمانهم الشخصي. لا ينبغي أن تحصل تلك الحكومات على الإمكانيات التقنية التي تسمح لها بالتجسس على مواطنيها والتحرش بهم". وبالرغم من كل التحفظات على ممارساتها، فإن حتى مركز شكاوى جرائم إنترنت في المباحث الفدرالية الأمريكية أصدر الأسبوع الماضي تحذيرا من نسخة برمجية فنفشر التي تستهدف الهواتف الذكية، وقدمت نصائح لتحسين خصوصية مستخدمي الاتصالات.

 

أسست أحداث بداية الثورة في يناير 2011 إدراكا عاما في مصر أن الاتصالات ليست موضوعا فنيا يترك للحكوميين والأمنيين ولشركات الاتصالات، بل هو موضوع يرتبط ارتباطا وثيقا بالحريات الأساسية للأفراد في مصر. من الملائم الآن أن يعاد النظر في بنية الاتصالات من منظور يراعى الأفراد وحقوقهم وحرياتهم، بينما يغير الرئيس مرسي قادة أجهزة الأمن القومي المسموح لها بالتنصت قانونا، وهي رئاسة الجمهورية وهيئة الأمن القومي والرقابة الإدارية، ومع الفشل المستمر في بداية إعادة هيكلة كاملة لوزارة الداخلية، يكون من المفيد تشكيل لجنة مستقلة ذات صلاحيات شبه قضائية وتضم ممثلين من المجتمع المدني كي تنظر في الإمكانيات الفنية للتنصت على الاتصالات، وتنشر تقريرا علنيا بما وجدته.

 

مدير وحدة الحريات المدنية في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved