التحالف مع الشيطان.. قياس مع الفارق!

عبد العظيم حماد
عبد العظيم حماد

آخر تحديث: الخميس 23 نوفمبر 2017 - 8:20 م بتوقيت القاهرة

ليست النية هى عقد مقارنة شاملة بين تحالف بريطانيا العظمى بقيادة ونستون تشرشل مع الاتحاد السوفيتى ضد ألمانيا النازية فى الحرب العالمية الثانية، وبين التحالف الخليجى الذى يبنى الآن ــ بهرولة مشهودة ــ مع إسرائيل ضد إيران وحلفائها فى الإقليم، لأن مثل هذه المقارنة الشاملة تستغرق مساحة هذا المقال كله، وعدة مقالات أخرى، ولكن يكفى القول إن تصريح تشرشل بأنه مستعد للتحالف مع الشيطان لهزيمة النازية تبريرا لتحالفه مع موسكو ــ وهو المشهور بعدائه المتطرف للشيوعية ــ لا تنطبق على الحالة الخليجية الإسرائيلية لسببين رئيسيين هما: 
أولا: لم يتخل تشرشل بسبب هذا التحالف عن رفضه للشيوعية، وعدائه لها، ولم يهون لحظة واحدة من خطرها، ولم يستهن بهذا الخطر، بل إنه كان هو نفسه صاحب مقولة إن الشيوعية السوفيتية فرضت على أوروبا الشرقية ستارا حديديا، مفتتحا حقبة الحرب الباردة، فى حين أن كثيرا من إخواننا فى الخليج (مسئولين ومعلقين وباحثين) لم يكتفوا بالتخلى عن عدائهم للصهيونية، بل باتوا يمتدحون إسرائيل، ويهونون من خطر هيمنتها على الإقليم، ويستهينون بهذا الخطر، ثم يتهجمون على فكرة الدولة الفلسطينية، وسائر حقوق الشعب الفلسطينى، ويتعاونون سرا وعلانية ضد حركات المقاومة للاحتلال والتوسع الإسرائيليين من حيث المبدأ، وليس بهدف الترشيد.
ثانيا: كان التحالف البريطانى السوفيتى بين أنداد من كل النواحى، وخاصة من الناحية العسكرية البحتة، ولم يكن توكيلا من بريطانيا للسوفييت للحرب نيابة عنها ضد النازية وحلفائها، كما لم يكن توكيلا من الاتحاد السوفيتى للبريطانيين لقتال ألمانيا وبقية دول المحور، فى حين أن مضمون التحالف الخليجى الإسرائيلى هو من الناحية العسكرية توكيل لإسرائيل بالقتال ضد إيران، أو ضد حلفائها، خصوصا حزب الله اللبنانى، وفى أحسن الأحوال فإنه تنصيب الإسرائيليين فى دور الشريك الأكبر فى هذه المهمة، وذلك إذا توافرت الشروط الدولية والإقليمية والداخلية (خصوصا فى الولايات المتحدة وإسرائيل) لشن الحرب، وهى الشروط التى سبق لنا إيضاحها فى عدة مقالات سابقة هنا فى «الشروق».
وفى هذه النقطة الأخيرة تنبئ تطورات الأسبوع الماضى بأن شروط الحرب لم تتوافر، وبالطبع ففى مقدمة هذه التطورات، عودة سعد الحريرى (رئيس الوزراء اللبنانى المستقيل غيابيا من العاصمة السعودية) إلى بيروت عبر باريس والقاهرة، وإعلانه «التريث» فى قرار الاستقالة، ولكى نفهم هذا التطور على وجهه الصحيح، علينا أن ندع جانبا ذلك الجدل العقيم حول ما إذا كان الحريرى قد احتجز فى الرياض، وأجبر على الاستقالة، أم أن هذا كله مجرد اتهامات مضحكة، كما قال وزير الخارجية السعودية، ذلك أن إعلان رئيس الجمهورية اللبنانية ميشيل عون بنفسه، وبلسانه فى ذروة الأزمة أن الحريرى محتجز بالفعل، وأن لبنان قد يتوجه إلى مجلس الأمن للمطالبة بإطلاق سراحه، يلقم ما يكفى من أحجار فى أفواه القائلين بأن الرجل لم يحتجز، ولم يكره على الاستقالة.
أكثر من ذلك فإن عدم استقالة وزراء تيار المستقبل (الذى يقوده الحريرى نفسه) من الحكومة اللبنانية التزاما باستقالة زعيمهم، وكذلك عدم استقالة الوزراء التابعين للكتل الحليفة لتيار المستقبل، أى كتلة جعجع، وكتلة جنبلاط.. كل ذلك لا يعنى إلا شيئا واحدا، وهو أنهم متفقون مع عون فى الرأى، وفضلا عن ذلك فقد جنب بقاء هؤلاء الوزراء فى مناصبهم لبنان خطر الانهيار السياسى الكامل.
فى ذات الوقت ليس لدى أحد من المتابعين شك فى أن هذه «الإدارة اللبنانية» للأزمة جرت بالتنسيق مع الجهات الدولية المؤثرة وبمساندتها، وفى المقدمة وزارة الخارجية الأمريكية، والرئاسة الفرنسية، التى اضطلعت بتفويض واضح من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى بقيادة الدور الدولى فى هذه الأزمة، وهذا ما قاله الرئيس الفرنسى ايمانويل ماكرون بنفسه، حين أعلن دعوة الحريرى لزيارة باريس، وذلك بعد يومين من عودته من الرياض، دون قرار نهائى حول وضع الحريرى، مما تطلب تصريحا شديد اللهجة، وغير معتاد من وزير خارجية ألمانيا ضد السعودية، يتهمها بإشاعة روح المغامرة فى الإقليم، مع تحذير لا تخطئه اذن، ولا شك أن هذا التحذير الألمانى أطلق بالتنسيق مع باريس أو بطلب منها، بوصف ألمانيا هى الشريك الرئيسى والأكبر مع فرنسا فى قيادة الاتحاد الأوروبى.
ومن الواضح الآن أن ماكرون كان بحاجة لهذا التفويض، ولإعلانه بنفسه، لكى يقطع الطريق على المخططين لتقويض الوضع السياسى فى لبنان تمهيدا لضربة عسكرية، لم يكن توقعها وليد استنتاج، ولكنه كان اعلانا صريحا من جان عزيز مستشار رئيس جمهورية لبنان، قال فيه إن الحكومة اللبنانية أبلغت بأن الضربة قادمة، وأنها ستكون على غرار غزو عام 1982، وأن قرارا اتخذ بذلك على المستوى الدولى الأعلى، كما ورد فى مقالنا فى الأسبوع الماضى.
هنا لابد أن نستغرب ادعاءات صدرت فى بعض كبريات الصحف العربية فى الأسبوع الماضى تنفى الاعتماد على إسرائيل فى توجيه هذه الضربة، وكأن دولة أخرى لها حدود مع لبنان تستطيع توجيه مثل هذه الضربة سوى إسرائيل، أو كأن إسرائيل ليس لها مصلحة مباشرة فى تدمير سلاح حزب الله الذى تتوق للخلاص من خطره فى ذاته، وللخلاص منه كسلاح ردع ضد أى هجوم محتمل من جانبها على العمق الإيرانى لتدمير البرنامج النووى.
وإذن فإن ما حدث هو أن بعض الشروط لم تتوافر للحرب، ونضيف إليها أن العكس هو الذى حدث، فتوافرت بعض شروط منع الحرب التى شرحناها فى مقال الأسبوع الماضى، وفى المقدمة منها احتشاد المعارضة الداخلية فى كل الولايات المتحدة وإسرائيل، وبمعنى أكثر تحديدا فقد تغلبت المؤسسة الأمريكية ــ ممثلة فى وزارتى الخارجية، والدفاع، والمخابرات، وقيادات الكونجرس، ودوائر المال والأعمال، ولوبى البترول ــ على القناة الخلفية الداعمة لخيار الحرب، بقيادة جاريد كوشنر صهر الرئيس دونالد ترامب، وكان تحذير ركس تيلرسون وزير الخارجية منذ اللحظة الأولى من اتخاذ لبنان ميدانا للحرب بالوكالة بالغ الدلالة على وجود ذلك التباين بين المؤسسة، وبين أولئك الذين اتخذوا قرار الضربة الشاملة للبنان على المستوى الدولى الأعلى، وأبلغوه إلى المسئولين اللبنانيين، مثلما أن هذا التصريح يسفه تلك الادعاءات التى أشرنا اليها منذ قليل بأن المحرضين والمخططين لن يعتمدوا على إسرائيل فى ضرب حزب الله.
كذلك من الواضح أن أولئك الذين رفضوا وأحبطوا قرار بنيامين نتنياهو عام 2012 بتوجيه ضربة لإيران فى مجلس وزرائه الأمنى، عادوا ورفضوا شن الحرب على حزب الله الآن، إما قلقا من قدرات الحزب التدميرية للعمق الإسرائيلى، وإما خوفا من ردود فعل دولية لا طاقة لإسرائيل بها، وإما لأن الذين اتخذوا قرار الضرب على المستوى الدولى الأعلى تراجعوا، أو لهذه الأسباب مجتمعة، وبذلك توافر أيضا شرط من شروط منع الحرب.
ــــــــــــــــــــــ
عندما كتبنا هنا منذ ثلاثة أسابيع عن القيود التى تحد من فاعلية التحالف الخليجى مع إسرائيل، كنا نريد أن يقتنع معنا من يعنيهم الأمر بأن الأمن الخليجى والأمن القومى العربى (إذا كان قد بقى لهذا التعبير معنى) لن يضمنه التحالف مع إسرائيل، وإنما يضمنه نظام إقليمى جديد تساهم فيه مصر بدور قيادى، ونضيف اليوم أن مخاطر التحالف الخليجى الاستراتيجى مع إسرائيل تتضمن أيضا عزل مصر استراتيجيا عن المشرق العربى والخليج، بحيث ينفرد هذا التحالف مع القوى الدولية والإقليمية الأخرى بترتيب الأوضاع، السياسية، والصفقات الاقتصادية فى هذه المنطقة الشاسعة.. فهل نحن منتبهون؟! 
عود على بدء فإذن لا تنطبق هنا مقولة تشرشل عن التحالف مع الشيطان، وربما كان الأكثر انطباقا على حالة الثقة المبالغ فيها فى إسرائيل هو الوصف القرآنى الذى يقول: «أينما توجهه لا يأتى بخير».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved