«الرهيب».. مسخرة على شرف «جودار»!

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: الخميس 23 نوفمبر 2017 - 8:20 م بتوقيت القاهرة

يتجاوز الفيلم الفرنسى «the redoubtable» أو «الرهيب» الكوميديا الخفيفة الذكية، إلى ما يقترب من الهجاء الساخر لفترة عاطفية وسياسية عاشها المخرج الأشهر «جان لوك جودار»، ينتقد الفيلم الذى كتبه وأخرجه «ميشيل هازانافيسيوس» ــ والذى عرض ضمن برنامج بانوراما الفيلم الأوروبى العاشرة ــ كل شىء تقريبا: الانحياز الأيديولوجى المتطرف، ادعاء اليقين المطلق، العداء للسينما، النرجسية والرغبة فى التحكم فى الآخرين، السذاجة المثالية سواء فى السياسة أو فى الفن.
«جودار» ــ بالتأكيد ــ فى قلب الفكرة وعنوانها، ولكنى استحضرتُ فى أثناء المشاهدة كثيرين، مثله، من هواة الثرثرة والتنظير، وممن يعتبرون أن الفنان أدنى من السياسى، وأن «الثورة» ذات مفهوم مغلق ومحدد، وأن الآراء إما سوداء وإما بيضاء، ولا تحتمل جدلا أو نقاشا أو حوارا.
معالجة الفيلم تعتمد على ما كتبته الممثلة «آن ويازمكى» التى تزوجت «جودار» وهى شابة صغيرة، فى التاسعة عشرة من عمرها، بينما كان هو مخرجا مشهورا، فى نهاية الثلاثينيات من العمر، اختارها فى العام 1967 للمشاركة فى فيلمه «الفتاة الصينية» لتلعب دور فتاة مؤمنة بالشيوعية على طريقة ماوتسى تونج. 
أحبت «آن» جودار فتزوجته على الرغم من فارق السن، وعلى الرغم من ميوله اليسارية، بينما كانت هى من أصول أرستقراطية، جدها لأبيها هو «فرانسوا مورياك» الروائى الفرنسى المناصر لديجول، كما تنتمى أيضا لعائلة أرستقراطية روسية.
ومنذ البداية يُبرز السيناريو هذا التناقض، على كل المستويات الشكلية والموضوعية: من جمال وليونة جسد «آن» وملابسها الملونة، إلى خشونة مظهر «جودار» وملابسه القاتمة، من صمتها إلى ثرثرته، من اهتمامها بالحياة الواقعية المباشرة، إلى اهتمامه بالأيديولوجيا والثورة والتنظير وحركات التحرير فى كل مكان، من بساطتها ورقتها، إلى حدته التى تصل إلى درجة الاشتباك بالأيدى دفاعا عن رأيه، وتصل المفارقة بينهما إلى درجة أنها تبدو رزينة وهادئة على الرغم من عمرها الصغير، بينما يبدو هو مراهقا فى أفكاره وفى تصرفاته، ومندفعا بلا حدود.
يشير الفيلم إلى مأزق فنى وأيديولوجى معا واجهه «جودار» فى تلك السنوات، بعد الصدى السلبى تجاه فيلمه «الفتاة الصينية»، قرر أن يتوقف عن السينما، اعتقد أنه لم يعد ثوريا بالقدر الكافى، ثم شارك فى تظاهرات الطلبة فى العام 1968، وكان أكثر تطرفا من الشباب أنفسهم، ثم تنكر لكل أفلامه القديمة، على الرغم من أنها هى التى صنعت مجده كفنان، وتبنى فكرة تصوير أفلام بدون سيناريوهات وبمشاركة الممثلين والعاملين فيها، وبينما اتسعت أفكاره بحجم مشكلات العالم من فيتنام إلى فلسطين، ضاقت حياته الخاصة، وتزايدت غيرته على آن، حتى وقع الانفصال.
كل شىء يُقدم هنا بنبرة ساخرة مدهشة: تكرار تكسير نظارة جودار يذكرنا دوما بالمسافة الهائلة بين نظرياته وإمكانياته، وتصلب الممثل لويس جاريل الجسدى فى أداء الشخصية يجعلها كارتونية تماما، اللافت أيضا استعارة المخرج فى سرده وحيله البصرية للكثير من طريقة «جودار» فى أفلامه؛ مثل: استخدام اللوحات المكتوبة، والتناقض بين معنى الكلمات المباشر، ومعناها المسكوت عنه، وحديث الممثلين إلى الكاميرا.
«جودار» ــ كما قدمه الفيلم ــ قليل الثقة فى نفسه، يريد أن يثبت ثوريته وشبابه فى كل مناسبة، ولكنه يفشل فى الدفاع عن وجهة نظره أمام الجمهور، يردد شعارات كالببغاء، ويبحث عن الاختلاف فى حد ذاته، حتى لو تطلب الأمر أن يسير إلى الوراء، لمجرد أن الناس تسير إلى الأمام!
تتعالى الضحكات ونحن نستمع إلى ثرثرة «جودار»، حتى وهو فى مواقفه الحميمة مع زوجته، أو وهو يحول كل شىء إلى مناظرات صاخبة، نراه زوجا غيورا متصلبا فى مقابل حيوية وظرف مخرجين مثل «ماركو فيريرى»، و«برتولوتشى»، فى أحد المشاهد يظهر «جودار» عاريا تماما فى بيته، بينما يواصل النقاش مع زوجته؛ رافضا أن تظهر عارية فى فيلم إيطالى.
«الرهيب» فى سخريته من جودار، إنما يسخر أيضا من كل الذين يضعون الأيديولوجيا قبل السينما والفن، تنهار الأيديولوجيات، وتتغير السياسة، ولكن تبقى إضافة «جودار» الفنية التى غيرت شكل السينما؛ سواء من حيث السرد، أو المونتاج، ولغة الصورة. يقول «جودار» إنه قد ولد كشخص آخر من قلب التجربة، ولكنه لم يقل إنه فقد امرأة أحبته، ولم يعترف أبدا أنه فى النهاية قد ذهبت الأيديولوجيا، وعاشت السينما.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved