نداء التجمع

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 23 نوفمبر 2017 - 8:20 م بتوقيت القاهرة

كأن هذه الجلبة القوية قد أصبحت طقسا من الطقوس المتكررة في عمارتنا العامرة، جلبة لا تخطئها أذن اعتدنا سماعها على فترات متباعدة، أصوات تحريك قطع الأثاث الضخمة من مكان إلى آخر، حوارات جانبية بين العمال تلتقطُ منها جملا للتحذير من تحطيم مرآة الكونسول النحاسي أو الألواح الزجاجية التي تخص مائدة الطعام، طرقٌ عنيف من جانب السكان على باب المصعد المُعَلَق في أحد الطوابق من ربع الساعة، ابنة الجيران الصغيرة تلامس جرس شقتنا بالكاد لتطلب منا بعض الجرائد القديمة لزوم التغليف ولو توفرت لفافات من البلاستيك يكون أفضل. هذا إذن ساكن آخر يخلي شقته ويتجه إلي الوجهة نفسها: التجمع الخامس أو التجمع فقط كما صار يقال له، ومن قبل أصبح لفظ الساحل يُغني عن وصفه بالشمالي على أساس أن كل تجمع يكون خامسا بالضرورة وكل ساحل لابد أن يكون شماليا. 
***

عرفت عمارتنا ظاهرة النزوح للتجمع من نحو عشرة أعوام، لكن في العامين الأخيرين زاد معدل النزوح بشكل ملحوظ إلى الحد الذي أوشك معه السكان على الانقراض. بدأ الأمر مع ساكن الدور الأرضي والتمسنا له العذر في حينه فالطابق الأرضي ليس هو الأمثل من حيث الرؤية والهدوء، اجتمعنا عنده مساء أحد الأيام نودعه وحين غادرنا في اليوم التالي تمكن منا شعور بالانقباض ونحن نمر بشقته الخاوية . ليس من الصحيح أن هذه العمارة رُفِعَت على أعمدة من حديد فثمة أعمدة أخرى تحفظ للبناء استقامته وتماسكه.. هذه الأعمدة صنعتها سنيين العشرة الطويلة وصواني الكعك التي كنا نتبادلها في الأعياد وجلسات النقاش في أمورنا المشتركة من أول أحوال حارس العقار وحتى مصاريف الصيانة الشهرية. تحت هذه الدواسة التي تركها جارنا وذهب وضعنا مفتاح شقتنا ليستخدمه عند الضرورة وأخفيناه مرات أخرى وسط أعواد الياسمين في حوض الزهور المعلق بشرفته. وراء هذا الباب اجتمعنا أيام الزلزال وتوابعه، وبينما كان القلق يستبد بِنَا جميعا كانت زوجته الطيبة تدور علينا بأكواب الشاي بالنعناع وتعتذر في لطف عن عدم تقديم القهوة فليس لها حظ معها. 
***

مضى جارنا في الطابق الأرضي ولم نعد نتزاور، وفي المناسبات المختلفة صار يكتب لنا عبارة محايدة من نوع " كل عام وأنتم بخير" ويضغط على زرار واحد فنتلقى تهنئته الجافة كما يتلقاها غيرنا، نحن أيضا صرنا نفعل معه ذلك. مرت أعوام على هذه الواقعة قبل أن يغادرنا جارنا في الطابق الأول، لم تكن علاقتنا به وطيدة فقد كان يميل إلى الانطواء ومنذ يعود من عمله كان يغلق بابه على أسرته فلا يفتحه إلا صبيحة اليوم التالي. ومع ذلك فحين سمعنا جلبة عمال نقل الأثاث وبدأ السكان يطرقون في عصبية على باب المصعد تجدد شعورنا بالانقباض. خَفَتَ الضوء في الطابق الأول، وحين كنا نضطر لصعود الدرج كان الجزء الأسفل من العمارة يتراءى لنا موحشا.. ما عدنا نسمع تلاوة القرآن تنبعث خافتة من وراء الأبواب. آثر الجاران أن يحتفظا بشقتيهما خاليتين فالعقارات أسعارها نار والمنطقة التي نقطن فيها لم تعد بها أي مساحة فضاء، هل كان من الأفضل لو حل سكان جدد محل الجيران النازحين ونسجنا معهم علاقات جديدة ؟ لست متأكدة من ذلك فالبدايات الجديدة تحتاج أشخاصا جديدة .. ليست نحن. 
***

تكرر الأمر مع جار الطابق الثاني بعد عام وتحول الأمر إلى طرفة - ليست طرفة بالضبط فهذا الوصف فيه سخرية من الذات. لكن علي أية حال بتنا كلما مر بعض الوقت ولم يغادرنا جار آخر نخشى على التجمع الخامس أن يكون فقد جاذبيته لا سمح الله لكن هيهات، فما تلبث حركة التنقلات أن تثبت لنا العكس فهناك تُفتَتَح سلاسل المطاعم والأسواق التجارية والمدارس والجامعات وتقام المساجد ودور المناسبات .. إلى هناك تذهب الحياة. إعلانات التلفزيون أيضا لا تكف عن الترويج للتجمع حيث الخصوصية والمساحات الخضراء والهواء النقي، فاتها فقط أن تقول بأي تكلفة يكون النزوح وعند أي نقطة بالضبط يتوقف اللهاث وراء الهدوء والسكينة فما عادت في بر مصر واحة للهروب. 
***
تأتي المناسبات السعيدة على عمارتنا فتبدي حدا أدنى من البهجة وتبدو أنوارها مصطنعة، تفقد العمارة تنوعها بنزوح جارتنا الأرملة المسيحية التي انتقلت لتعيش مع ابنها في كومباوند بالتجمع، وتفقد حيويتها بنزوح الأجيال الشابة التي كبرت علي أيدينا وفي عيوننا وأطفأنا لها شموع ميلادها سنة بعد سنة، الأهم أن العمارة باتت تفقد صلابتها و تتآكل أعمدتها الإنسانية ليعاد بها بناء تجمعات أخرى ووحدات أخرى .. فهل يقاوم ما بقي بيننا من الجيران نداء التجمع أم أن هذا التجمع هو ندّاهة يوسف إدريس التي أخذت من القرية ناسها وألقت بهم في خضم المدينة الكبيرة؟ لست أدري.. فعلا لست أدري.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved