أسلوب.. فاتن حمامة

كمال رمزي
كمال رمزي

آخر تحديث: السبت 24 يناير 2015 - 8:20 ص بتوقيت القاهرة

على سلالم المحكمة، فى «أريد حلا» لسعيد مرزوق 1975، تجلس فاتن حمامة جوار السيدة الأكبر سنا، أمينة رزق، كلتاهما فى مأزق، لكن الفارق بينهما بالغ الاتساع، وذلك أن الأخيرة، إلى جانب مشكلات الطلاق، وقوانينه المنحازة للرجل، تعانى ضيق ذات اليد، وها هى، تفتح حقيبة يدها القديمة، المهترئة، لتخرج منديلا، تفركه بين أصابعها، بديلا عن البكاء، وتشكو حالها لفاتن حمامة.. المشهد للقديرة أمينة رزق، التى تعبر عن انكسارها الداخلى، بعيونها الحزينة، وصوتها المتهدج بالأسى. لكن قوة وعمق تأثير الموقف، يكتمل بذلك الحنو النابع من قلب فاتن حمامة. إنها تكاد تحتضن المظلومة، الحائرة، بنظرة مفعمة بالتفهم والشفقة، مع ما يشبه شبح ابتسامة تشجيع.

هنا، تتجلى إحدى قدرات فاتن حمامة: تكثيف الإحساس بالآخر، فهى، بموهبتها وخبرتها، تدرك أنها ليست مفردة داخل الفيلم، حتى لو كانت البطولة المطلقة لها، لذا، يصل المشاركون معها، إلى أعلى مستوياتهم، إلى جانبها.. وأحيانا، بأداء بارع، تعبر ببلاغة، عن أحداث قد لا نرى تفاصيلها. آية ذلك ما حققه معها مخرجها الأثير، هنرى بركات، فى «دعاء الكروان» 1959، وبالتحديد فى مشهد قتل «هنادى».. بركات، بشاعريته المرهفة، يتحاشى تماما تصوير الدم، أو الإيغال فى تجسيد القسوة، وبالتالى، اكتفى برصد مقبض الخنجر يرتفع فى الفضاء، فى يد الخال، ثم يهوى على زهرة العلا، وينتقل بركات سريعا، إلى فاتن حمامة، المذهولة، المذعورة، وقد وضعت أصاعبها على فمها، وبنظرات زائعة، متألمة، نكاد نرى تفاصيل لحظات الموت التى لم تعرضها الشاشة.

فاتن حمامة، تمثل وكأنها لا تمثل، تعتمد على حساسية داخلية قائمة على إدراك عقلى للمواقف، ولطبيعة بقية الشخصيات، ونوعية علاقاتها بهم، وعلاقتهم بها، فضلا عن استيعاب الانفعالات البسيطة والمركبة، فى هذا المشهد أو ذاك.. تعبر عنها على نحو سلس، بالغ النعومة، خلال وجهها الدقيق الملامح، بقسماته الجميلة، البعيدة عن الصخب، القريبة إلى النفس، المتميز بعينين واسعتين، صادقتين، معبرتين، تجعلانك تطل من خلالهما على عوالم رحبة من أحاسيس متباينة، متداخلة، متعددة الألوان والدرجات.

أما عن صوتها، الذى غالبا لا يرتفع، فإنه يتسلل إلى القلب حاملا معه شحنات انفعالية، تتجسد بفضل قدرتها على منح الكلمات معانيها، الظاهرة والخفية، وتلوينها بالأحاسيس التى تريد التعبير عنها.. وأحيانا، يتحول صوتها إلى «معزوفة»، تهز وجدان المتلقى، وتظل باقية فى الذاكرة السمعية، فى «الحرام» لبركات 1965، على سبيل المثال، تردد، فى نوبات الحمى التى تنتابها، أربع كلمات بنغمة أقرب للأنين، تلخص مأساة كاملة «عرق البطاطا كان السبب».

«الأخذ والعطاء»، عند فاتن حمامة، ليس مقصورا على علاقاتها بغيرها من البشر «الممثلين»، ولكن يمتد إلى الإكسسوارات التى حولها، ومن الممكن أن يغدو ثلاثى الأطراف، هى، والممثل، وقطعة الإكسسوار.. فى «يوم مر.. يوم حلو» لخيرى بشارة 1988، تؤدى دور امرأة من شبرا، أرملة ربان سفينة تحمل أربعة أبناء، عليها الحفاظ على سلامتهم وسط متاعب لا تنتهى.. إحدى بناتها تزوجت من شاب فالت العيار، أقرب للبلطجى، يؤدى دوره محمد منير.. تزداد شروره مع الأيام.. تقرر مواجهته، وإيقافه عند حده.. وها هى، بإرادة من حديد، تتأسد، وتلتمع عيون فاتن بالعزيمة والتحدى، لكن الوغد، الذى يعرف، كما نعرف نحن، ما الذى تعنيه ماكينة الخياطة بالنسبة لها، وبالنسبة لكل من تعتمد عليها كمصدر رزق.. زوج الابنة، برعونة، يكاد يرفع الماكينة مهددا بتهشيمها على الأرض. حينئذ، فى لحظة، يتلاشى غضب فاتن حمامة، تتحول إلى أرنب هادئ لطيف، ناعم ومحب، طبعا كى تتحاشى غضبه.. تظهر له مودة مزيفة، بينما نحن نعرف ما الذى يدور فى داخلها. هنا، يصبح الأخذ والعطاء بين فاتن، والماكينة، وزوج الابنة.

فى مشوارها الطويل، على الشاشة، طوال ستة عقود، قدمت عشرات الصور المتباينة، وربما المتناقضة، للمرأة المصرية.. عملت مع أجيال متوالية من مخرجين تختلف أساليبهم، من «ميلودرامات» حسن الإمام إلى رومانسيات عز الدين ذوالفقار، ومن طبيعية صلاح أبوسيف إلى واقعية خيرى بشارة، ومن بوليسيات كمال الشيخ إلى كوميديات فطين عبدالوهاب.. وبرغم تنوع الادوار التى قدمتها، فإن موهبتها الكبيرة، اعتمدت على ركائز أساسية، عظيمة الشأن، فعالة، حققت بها لقب «سيدة الشاشة العربية» عن جدارة، وكانت سببا فى نجاح عشرات الأعمال، لكن يبقى السؤال، ليس بالنسبة لفاتن، ولكن بالنسبة لأفلامها: كيف قدمت صورة البنت المصرية، عبر ما يزيد على النصف قرن.. علينا البحث عن إجابة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved