فى تحية كلوفيس مقصود.. داعية العروبة والاشتراكية الذى لا يغيب

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الثلاثاء 24 مايو 2016 - 10:10 م بتوقيت القاهرة

لم تكن مصادفة أن يرحل الدكتور كلوفيس مقصود، الكاتب الداعية، المفكر المميز، المحاضر، الخطيب المفوه، سفير القضية الفلسطينية بوصفها حبة العقد فى النضال العربى، مع «الاحتفال» بالذكرى المئوية لمعاهدة سايكس بيكو، واستباقا للذكرى المئوية لوعد بلفور، وهما قد حكما معا مصير المشرق العربى عبر تقسيمه دولا شتى تمهد لغرس الكيان الصهيونى، بالقوة، فيه.

لقد انتدب نفسه هذا الأستاذ الجامعى، مارونى الأب، أرثوذكسى الأم، اشتراكى التفكير، عروبى الإيمان، ليكون بداية سفير الجامعة العربية، بل سفير العرب جميعا إلى الهند، حيث بات داخل بيت زعيمها جواهر لال نهرو وعائلته، ثم إلى دول كثيرة وفى مهمات متعددة، قبل أن يصير فى الأمم المتحدة، فى نيويورك سفيرا ثم فى واشنطن معتمدا وبيتا لفلسطين وناطقا باسم العرب، ثم مناضلا باسم «الجنوب»، حيث أنشأ قسما خاصا فى جامعة واشنطن للعالم الثالث.

***

فى بيروت التى نشأ فيها الفتى المولود لأبوين مهاجرين فى الولايات المتحدة الأمريكية كان كلوفيس مقصود الطالب ثم المتخرج المعزز بدكتوراه فى العلوم السياسية، «داعية» نشيطا ومبشرا باشتراكية عربية (ظلت حتى الساعة قيد الانشاء)، ومناضلا لا يتعب من أجل فلسطين، قضية مقدسة ثم ثورة قدمت الشهداء أفواجا من أجل التحرير، خطيبا وكاتبا، متظاهرا وأستاذا فى أوقات الفراغ، يتصيد المراسلين الصحفيين الأجانب ليشرح لهم «القضية المقدسة» مصححا ما أمكن من معلوماتهم المزورة عن تاريخ فلسطين ونضال شعبها من أجل حريته واستقلاله فى مواجهة الانتداب البريطانى الذى استولد الكيان الصهيونى تحت رعايته.

ولعل نقطة التحول الأساس فى حياة كلوفيس مقصود تتمثل فى اللقاء الذى طلبه فناله مع الرئيس القائد جمال عبدالناصر، بعد تجربة حزبية مع الزعيم اللبنانى كمال جنبلاط.

بعدها ستختار الجامعة العربية كلوفيس مقصود ليكون سفيرها لدى الهند، «فاقتحم» بيت زعيمها جواهر لال نهرو حتى سكنه.. وحين عقد مؤتمر باندونج وجد هذا المجتهد حيوى الفكر فرصة تاريخية للتعرف إلى زعماء حركة عدم الانحياز، سوكارنو وتيتو وشو إن لاى ثم أبطال التحرير فى افريقيا نكروما وموديبو كيتا وسيكو تورى ولومومبا.
ولقد بات منذ ذلك الوقت داعية للعالم الثالث يبشر بقدراته، إذا ما توافرت له القيادات المؤهلة لبناء الغد الأفضل..

على أن نكسة 5 يونية 1967 سرعان ما بددت بعض أحلام كلوفيس مقصود، فترك جامعة الدول العربية لينتسب إلى «أهرام» محمد حسنين هيكل كاتبا وناشطا فى مجال العلاقات الدولية، محاورا ضيوف قاهرة عبدالناصر من المفكرين والدعاة المبشرين بغد أفضل للإنسان فى أربع رياح الأرض.

وكان بيت هذا المتفائل الأبدى، والقادر على اختراع الأمل من قلب حالة اليأس التى أخذت تشق طريقها إلى نفوس «الجماهير»، ملتقى كبار زوار القاهرة من سياسيين ومفكرين عرب وأجانب ممن تستضيفهم «الأهرام» ثم يدعوهم إلى منزله فى الجيزة، الذى كان قبله لمؤسس الحركة الشيوعية فى مصر هنرى كوريل.

***

بعد ذلك ستوفده جامعة الدول العربية إلى واشنطن، حيث سيلتقى شريكة حياته، هالة سلام، ابنة العائلة السياسية المعروفة فى لبنان، والمناضلة بل المقاتلة من أجل حق الفلسطينيين فى بلادهم.. وصورها لا تنسى حين أقامت اعتصاما ونصبت خيمة أمام البيت الأبيض احتجاجا على الدعم الأمريكى المفتوح للعدو الإسرائيلى الذى لم يتوقف عن ارتكاب المجازر ضد الشعب الفلسطينى.

ولسوف يذهب إلى الأمم المتحدة فى نيويورك، وكأنه وفد قائم بذاته، للدفاع عن القضايا العربية، وفلسطين عنوانها..

لم يكن «دون كيشوت»، لكن سائر فرسان القضية تاهوا عنها أو تعبوا من يأسهم الذى مصدره التخلى العربى، خصوصا بعد حرب أكتوبر 1973، حين اهتمت دول المواجهة بشئونها، تاركة فلسطين المستضعفة إلا بثورتها للعبة الدولية التى كانت السبب فى نكبتها.

كتب كلوفيس مقصود كثيرا، وخطب أمام محافل دولية شتى، ونزل ضيفا ومبشرا بالحقوق العربية عموما، وفلسطين أساسا، على مؤسسات جامعية ومنتديات فكرية عديدة وأنتج كتبا كثيرة، وقاوم اليأس من سوء الأحوال بالأمل فى التغيير، وكانت مصر مركز البوصلة فى تفكيره ومصدر أمله دائما.

وبرغم بعده جغرافيا عن «الميدان» فقد كان دائم التردد على القاهرة ومركزه فيها بيت محمد حسنين هيكل، بعد رحيل أحمد بهاء الدين.. وظل على صلة بجامعة الدول العربية بعدما رحلتها معاهدة الصلح مع العدو الإسرائيلى فحطت رحالها فى تونس بعهدة الشاذلى القليبى الذى كان يشرح لكلوفيس مقصود ما يرى فيترجم له كلوفيس ما تقول المسرحية..

ولقد كان لكلوفيس مقصود ثروة من الصداقات فى مختلف الأقطار العربية، وكان يجول عليهم محاضرا وخطيبا وداعية فى مناسباتهم الوطنية أو مشاركا فى ندوات فكرية وحلقات دراسية، معززا الأمل مقاوما اليأس بتفاؤله الذى لم يغادره يوما، والنابع بالتأكيد من إيمانه بعدالة قضيته.

لعل هذا يفسر رنة الحزن التى عمت الأوساط السياسية والدبلوماسية والصحفية العربية، على غياب هذا المناضل الحقيقى ضد اليأس والخيبة والهزيمة، مذكرا بقدرات هذه الأمة التى يشهد لها تاريخها بأنها قادرة ومؤهلة لبناء غدها الأفضل إذا ما اجتمعت كلمتها، التى ندر أن اجتمعت مع الأسف الشديد..

***

لقد خسرت الأمة واحدا من «مجاهديها» بالفكر والكلمة والإيمان بقدراتها، وكان بديهيا أن يكتب من عرفه أو قرأ له أو استمع إليه محاضرا، شهادات عن صموده على إيمانه، وثباته على ما يعرف أنه الحق، حتى لو تخلت عنه الكثرة بسبب من ضعفها أو يأسها أو مرارة التجارب السابقة فى سياق النضال من أجل الوحدة، أو أقله التضامن فى مواجهة الأعداء والطامعين، وعلى رأسهم الاحتلال الإسرائيلى لفلسطين (وللإرادة العربية) ومعه بطبيعة الحال القوى الداعمة والحامية والمساندة فى الغرب والشرق، وإن ظلت الولايات المتحدة الأمريكية تحتل مركز الصدارة.

فضلا عن هذا كله فقد كان كلوفيس مقصود ظريفا سريع البديهة فى إطلاق النكات أو فى الرد على من «يشنع» عليه إلى حد القول إن فعلا جديدا قد أضيف إلى اللغة العربية وهو فعل «كلفس»: «فإذا كانت الفلسفة هى رد المجهول إلى معلوم فإن الكلفسة هى رد المعلوم إلى مجهول».

ولقد شكل الراحل منح الصلح مع كلوفيس مقصود ثنائيا لامعا، ولطالما شهد «مطعم فيصل» الذى أعطى اسمه عنوانا للجامعة الأمريكية فى بيروت، جولات من التبارى فى التشنيع وفى استيلاد النكات والنكات المضادة، حتى صار مقصدا للراغبين فى جلسات أنس عمادها الظرف المستند إلى ثقافة عريضة وإلى معرفة واسعة بأحوال الدول والعباد فيها.

لقد كان كلوفيس مقصود، بحق، شاهدا على عصر كامل، حفل بالآمال العراض والانتكاسات الموجعة.. لكن ابن وادى شحرور الشويفات فى جبل لبنان، استطاع أن يكون «العربى» بامتياز، يعرفه ويسمعه ويقرأ له ويقدره أهل المغرب كما أهل المشرق، وإن كانت القاهرة هى المركز وبيروت هى المنطلق وواشنطن هى المقر الذى كان مؤقتا فصار دائما.

لقد عاش حياته الحافلة بالأمل وعليه قاتل اليأس حيثما وجده، وكان ثابت العقيدة لا تهزه الخيبات المتكررة، ولا النكسات، بل حتى الهزائم، لأن إيمانه بالأمة، بالشعب، كان الأقوى.

ولو تسنى لكلوفيس مقصود أن يجمع محاضراته ومناقشاته الفكرية مع «الكبار» فى عالم الفكر السياسى، كما فى قضية الاشتراكية وضرورة الوحدة العربية لأعطانا مكتبة غنية جدا تصلح مرجعا مميزا، لاسيما فى هذه المرحلة التى يكاد اليأس من الذات أن يغدو عنوانا لها.

لقد أخذ كلوفيس مقصود عن أساتذة كبار وتعلم منهم وبشر بالمبادئ التى كانوا يعملون لتحقيقها: من كمال جنبلاط اللبنانى إلى جواهر لال نهرو الهندى ومن جوزيف بروز تيتو اليوغسلافى إلى شو إن لاى الصينى ومن أحمد سوكارنو الأندونيسى إلى قسطنطين زريق المفكر القومى والأستاذ الجامعى.

أما جمال عبدالناصر فقد كان له موقعه الخاص، خصوصا وأن أول لقاء له معه كان فى بدايات الثورة (1953) ، ثم استمر مفتوحا كلما سمحت الظروف بإتمامه.

بالمقابل فقد أعطاه محمد حسنين هيكل المنبر فى «الأهرام» والفرصة لأن يدعو ثم لأن يلتقى العديد من كبار أهل الفكر، غربيين وعربا.

وفى بيروت شكلت «النهار» وبعدها «السفير» منبرا لهذا المفكر الذى لم يغادر إيمانه بالأمة وقضاياها وحقها فى التقدم بالوحدة، وظل يقاتل مع رفيقة عمره المناضلة هالة سلام مقصود وحتى اليوم الأخير رحمهما الله.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved