تغيير هناك وجمود هنا

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 24 يونيو 2010 - 10:08 ص بتوقيت القاهرة

 وجدته بعد طول انتظار وبحث. وجدت لقاء أثار النقاش فيه أسئلة أكثر مما قدم من إجابات. كنا عشرين أو أكثر قليلا، جئنا من مواقع كثيرة تفرقنا خلفيات متباينة وأيديولوجيات متعددة ويقسمنا النوع، أغلبية ذكورية وأقلية من الإناث. وتجمعنا ثلاثة، موضوع ساخن ووقت محدود للغاية ومدينة رطوبتها فى ذلك اليوم أشد من قيظها.

اجتمعنا لنتأمل فى مفارقة مثيرة تلخصها عبارة أن نظرة أوروبا وأمريكا إلى إسرائيل وفلسطين بدأت تتغير بينما قادة العرب يزدادون ابتعادا وتنافرا وغيابا. أصحاب الشأن غافلون لا يبصرون ولا يسمعون ولا ينطقون بينما الغرباء يستعيدون الوعى ويعيدون النظر ويحاولون فهم ما تعثر عليهم فهمه أو على الأقل يمثلون أن هذا هو ما يفعلون وهو فى حد ذاته تغيير. كان واضحا أن عددا لا يستهان به من المشاركين فى هذا اللقاء متعمقون فى دراسة المجتمع الأمريكى وفى فهمه، وبعضهم مقتنع أن أوباما لم ينهزم بعد أمام بنيامين نتنياهو.

يتصور هؤلاء، مثل كثيرين فى أمريكا وخارجها، أن أوباما صاحب فكر جديد، وأنه ثمرة تطور متدرج ولكن متصاعد فى المجتمع الأكاديمى الأمريكى وداخل النخبة السياسية. يقولون إن السنوات الأخيرة شهدت نموا متزايدا فى حركة احتجاج هادئة تضم أساتذة وقيادات طلابية تعتبر أن جماعات الضغط اليهودية فى الولايات المتحدة بالغت فى استخدام وسائل متعددة بعضها مشتق من تجارب فاشية لتشويه صورة العرب والمسلمين. أثمرت هذه الاحتجاجات غير المنظمة استعدادا أكبر لدى الأكاديميين الأمريكيين لبذل الجهد نحو فهم موضوعى لقضية فلسطين وتصرفات دولة إسرائيل وللدور الجوهرى الذى تلعبه جماعات الضغط الصهيونية فى صنع السياسات الأمريكية.

تابعت، على البعد ومنذ انهيار بنايتى التجارة العالمية فى نيويورك فى 2001، الحملة التى قادها قادة النشاط الصهيونى ضد ما سموه هيمنة أساتذة من الإسلاميين والمتطرفين منهم خاصة على برامج دراسات الشرق الأوسط فى الجامعات الأمريكية، وبالفعل شكل اليهود الناشطون فى الحركة الصهيونية ما يشبه الميليشيات غير المسلحة فى الجامعات الرئيسة وكانت مهمتهم الإبلاغ عن أى محاضر ينتقد سلوكيات إسرائيل أو يمتدح تصرفات عربية وإسلامية.

هؤلاء استندوا إلى أجواء صنعتها سياسات الرئيس بوش تحت عنوان الحرب ضد الإرهاب. وأعتقد أن هذه الحملة كانت المفجر لحركة الاحتجاج ضد سلوك جماعات التطرف اليهودى وضد هيمنة أقلية متعصبة على عمليات صنع السياسة الأمريكية.

ومع ذلك لا أظن أن أحدا من المتابعين للتطورات الداخلية فى أمريكا يمكن أن يخدع نفسه فيتصور أن هذا التيار الاحتجاجى المتنامى يستطيع الآن أو فى الأجل القصير أن يحدث تغييرا جوهريا فى السياسة الخارجية الأمريكية. ومع ذلك سمعت فى اللقاء بلسان خبراء وأكثر من خبير أمريكى، ما يؤكد ما كنت أعرفه من أن سياسيين أمريكيين أكثر عددا صاروا أقل تعنتا فى رفض الاستماع إلى رأى آخر فى العرب والمسلمين وفى إسرائيل وفلسطين، غير الرأى اليهودى. وهذا فى حد ذاته خطوة واسعة إلى الأمام فى مجتمع استطاعت أقلية معينة توجيه إرادته السياسية صوب العداء لعشرات الدول لمجرد أن أكثر شعوبها يدين الإسلام وبعضها يتكلم العربية.

أوباما، فى رأى هذا النفر من الأمريكيين، وأحدهم يعرفه عن قرب، هو إحدى ثمار هذا التطور فى المجتمع الأكاديمى وجماعة النخبة فى أمريكا. يقول هؤلاء إن أوباما وأمثاله يدركون تماما حقيقة الوضع فى الجامعات ومراكز البحث الأمريكية ويعرفون أن حرية القرار السياسى مقيدة من ناحيتين على الأقل، إحداهما وسائط الإعلام التى تقدم فى بعض الأحيان صورة مغايرة للصورة التى يرسمها خبراء وبيروقراطيون لتطرح على المسئولين عن اتخاذ القرار.

ويلمح أحد المطلعين من الذين حضروا اللقاء إلى أن خبراء الشرق الأوسط فى الخارجية الأمريكية أزيحوا من مناصبهم وحل محلهم دبلوماسيون يعتنق بعضهم الصهيونية أو من المتعاطفين مع سياسات الليكود. القرار السياسى مقيد من ناحية أخرى بالكونجرس بمجلسيه، حيث تكاد الأغلبية فيهما تكون مشلولة الرأى الموضوعى وقد ضبطت متلبسة بالتصويت على مشاريع قرارات تأتى إليها أحيانا على أوراق تخص جماعة الايباك أو فرع من فروعها.

نوقش بالطبع موقف بعض القادة العسكريين من تعنت إسرائيل فى مفاوضات التسوية بينها والفلسطينيين. لاحظت أن أصحاب الرأى المتفائل بمستقبل الحركة الاحتجاجية فى المجتمع الأكاديمى ضد هيمنة الصهيونية على السياسة الخارجية الأمريكية يعتقدون أن الموقف العسكرى القاضى بأن إسرائيل صارت تشكل عبئا على مصالح أمريكا وأمنها القومى إنما يندرج بشكل ما تحت عنوان الحركة الاحتجاجية الأكاديمية، وإن كانت لا توجد علاقة مباشرة باستثناء ما يقوم به أساتذة الجامعات الذين تستدعيهم القوات المسلحة لإلقاء محاضرات أو للتدريس فى كليات الحرب. ولكن التدخل الحاسم لا شك جاء من جانب الضباط والجنود الذين يحاربون على أراض إسلامية وعربية طوال عشر سنوات تقريبا. هؤلاء أدركوا أن التحالف الأمريكى الإسرائيلى مسئول مباشرة عن الفشل المتراكم الذى حققته الأعمال العسكرية وعن الخسائر المادية والمعنوية الضخمة التى منيت بها الولايات المتحدة. هؤلاء أيضا اختلطوا مباشرة بشعوب غاضبة على السياسات الأمريكية وبخاصة موقف أمريكا من فلسطين، أو بشعوب مغيبة بقهر حكومات متعاونة مع إسرائيل ويحظى القهر الذى تمارسه بدعم واشنطن، أو شعوب خاب أملها فالتزمت السلبية تجاه القوات الأمريكية التى جاءت بزعم «تخليصها» من متسلط أو متطرف بينما كان المستفيد، أو فى صدارة المستفيدين، أمن إسرائيل ومصالحها وحربها الخاصة ضد العرب والإسلام. هكذا توصل القادة إلى أن إسرائيل صارت عبئا باهظ التكلفة.

ومع ذلك يبقى واضحا أن المؤسسة العسكرية على أهميتها ودورها المؤثر فى صنع السياسة الأمريكية فى الخارج، والمؤسسة الأكاديمية على قيمتها ودورها الفعال فى توعية أجيال متعاقبة، ومؤسسة أوباما، وأقصد بها الجماعة التى شجعت صعوده السياسى وتابعت مسيرته، جميع هذه المؤسسات ستظل عاجزة عن اختراق حاجزى وسائط الإعلام ومجلس الكونجرس طالما بقيت الهيمنة الصهيونية راسخة.

لذلك لم تأت كمفاجأة أن نتنياهو حين أراد أن «يجمد» أوباما ومبعوثيه فى الشرق الأوسط والعناصر المتمردة على «إيباك» فى البيت الأبيض والشارع اليهودى فى أمريكا استخدم الكونجرس والإعلام باعتبارهما أهم مخالبه واستخدمهما بدرجة قصوى من العنف الغطرسة.

بشكل آخر ولأسباب أخرى استمرت تنمو فى أوروبا حركة احتجاج مشابهة لحركة الاحتجاج الأمريكية على النفوذ الصهيونى المتصاعد. تبدو أشد وضوحا فى بريطانيا على مستوى النقابات والروابط المهنية مثل هيئات التدريس. ولا يخفى أن بعض قادة الاحتجاج فى بريطانيا أعربوا فى اتصالات غير معلنة أنهم يأملون خيرا فى الحكومة الائتلافية الجديدة التى تضم محافظين وليبراليين وديمقراطيين باعتبار أن قادتها أقدر على التحرر من النفوذ اليهودى فى بريطانيا من قادة حزب العمال، خاصة أنهم عقدوا النية على التخلص من العناصر البيروقراطية المؤيدة لمدرسة طونى بلير، السياسية التى بتبعيتها الشديدة للولايات المتحدة وخضوعها المطلق للسياسة الإسرائيلية، تسببت بشكل مباشر فى صعود التيار الدينى المتطرف بين المسلمين البريطانيين وتوتير العلاقات الاجتماعية فى المجتمع البريطانى ونشر الخوف والقلق. تستطيع الحكومة الائتلافية وبجهود ليست شاقة إعادة الثقة إلى نفوس الجاليات الإسلامية فى المدينة إذا تحررت من هيمنة النفوذ اليهودى وصنعت توازنا مناسبا بين مختلف الفئات فى بريطانيا.


وفى فرنسا، يقول أحد المتخصصين فى شأنها وشئون أوروبا، إن حركة الاحتجاج بدأت تأخذ أشكالا وتستعد بمبادرات سياسية متعددة وإن غير ناجحة بعد، ولكنها كما فهمت من النقاش تكتسب طاقتها من أخطاء ساركوزى المتكررة وانحيازه الشديد لإسرائيل وخضوع حكومته للنفوذ السياسى اليهودى.

لم يكن دوفيلبان لينطق بما نطق به منذ أيام قليلة موجها خطابه للناخبين من أصول عربية وإسلامية وهو يسعى إلى إزاحة ساركوزى من الرئاسة إلا إذا كان هناك من قدم إليه تقويما جديدا لقوى الاحتجاج فى فرنسا. بعض هذه القوى صار يعبر عن حال التوتر المتزايد داخل المجتمع الفرنسى كما الحال فى المجتمع الإيطالى ومجتمعات أخرى فى غرب أوروبا انساقت وراء حملة تدعمها القوى المؤيدة لإسرائيل وتهدف لنشر العداء ضد المهاجرين والمواطنين من أصول إسلامية وعربية.

بوادر تغيير هناك وإصرار على الجمود هنا. لن أصدق أن الضغوط التى صنعت الجمود هنا وعملت على ترسيخه طبقة فوق طبقة ليس بينها أنواع وأشكال متباينة من الضغوط الإسرائيلية. أعرف أن الفقر والقهر والفساد والفوضى الاجتماعية والخوف وعدم الثقة والانتفاع الشره من الوضع القائم، كلها وغيرها ضغوط لتجميد العرب وغرس اللافاعلية واللامبالاة فى جميع مجالات النشاط الدولى والإقليمى. وأعرف، كما يعرف كل من شارك فى لقاء الخبراء، أن الأمور إذا تركت لمجراها الراهن ستصل إلى نهاية غريبة. العرب والإسرائيليون متحدون لصد عواقب التغيير فى الغرب.


هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved