إلى القرآن من جديد - (1) المذهبية واللغة

جمال قطب
جمال قطب

آخر تحديث: الجمعة 31 يوليه 2015 - 8:55 ص بتوقيت القاهرة

ــ1ــ
ما زال القرآن مهجورا هجرا يؤثر على الأمة فى حاضرها ومستقبلها، والهجر الذى أعنيه هو هجر القرآن دراسيا وفكريا واكتفاء المتخصصين بنقل الأفكار وتكرار إنتاج السابقين حتى حولوا أقوال البشر إلى مقدسات تجاور وحى الله وبيانه النبوى. فما أن تذكر آية من آيات القرآن إلا ويقارنها أقوال بعضها لبعض الصحابة دون البعض، وبعضها لبعض التابعين دون البعض، وبعضها لبعض علماء القرون التالية، وهكذا حتى يجد الدارس نفسه أمام أقوال لبعض المتأخرين أو المعاصرين. ومن المفهوم أن المؤلف الذى اختار أقوالا دون غيرها قد اختار ما توافق مع ثقافته التى تخصص فيها أو ما توافق مع هواه أو فى أحسن الأحوال ما ظن أنه أصلح الأقوال لزمانه الذى يعيش فيه ومكانه الذى سكنه، فإذا أضفنا إلى ذلك الطابع المذهبى الذى تأثر به المؤلفون اعتبارا من نهاية القرن الثانى وحتى الآن، فلا شك أن كتب تفسير القرآن قد صالت وجالت فى حلقات المذهبية والثقافات الشخصية المتحصلة فى كل عصر وفى كل مصر. وأصبح الدارسون يتناقلون الأقوال مصنفة تصنيفا مذهبيا، فإذا الطالب أمام أقوال توصف بأنها سلفية وأخرى بأنها سنية وثالثة بأنها معتزلة ورابعة بأن صاحبها من الخوارج، فإذا انتقلت إلى إنتاج الفلاسفة والمتصوفة ثم إنتاج فرق الشيعة واختيارات مفسريهم وجد الدارس نفسه أمام ركام من أقوال السابقين دون أدنى تفكيك وإعادة تركيب، وكأن تلك الأقوال قد أصبحت فريضة على المسلم لا يقرأ كتاب الله إلا من خلالها ولا يفكر فى معانى الوحى إلا بمنظارها، وهذا فى تقديرى هو الهجر الأكبر للقرآن الكريم.


ــ2ــ
ومن فضل الله ونعمته أن القرآن الكريم قد دون وحوى آليات دراسته وأدوات تفسيره تدوينا جديرا بالتأمل ثم جديرا بالاتباع قبل النظر إلى أى أفكار أو ثقافات بشرية دونها المؤلفون حول هذا الكتاب المبين. ويجب ألا ننسى أن القرآن الكريم قد أكد مرات كثيرة على أنه: ((كِتَابٍ مُبِينٍ)) و((قُرْآنٍ مُبِينٍ))، بل وفى آية ثالثة يقول سبحانه وتعالى: ((الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ)). أليس هذا توجيه قرآنى يؤكد أن القرآن يبين بعضه بعضا ويتمم بعضه بعضا حتى قال المتخصصون إن القرآن الكريم من أوله إلى آخره يعتبر جملة واحدة لا يصح النظر إلى مقطع منها بعيدا عن الجملة كلها. كذلك أكد القرآن على عدم حاجته إلى تدخل من خارج أسواره وبعيدا عن الهدى النبوى إذ يقول: ((وَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانا لِكُلِ شَيْءٍ))، ويقول: ((..كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَ فُصِلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)). فماذا يدعو كثير من المفسرين إلى اختلاق معان وتجاهل بعض الأحكام بدعوى ما يرون أنه منطقى. وفى الحقيقة هم يؤيدون قواعد مذاهبهم من حيث يشعرون أو لا يشعرون. ومع تقديرنا الواجب لجهود هؤلاء، فنحن لا ننكرها، ولكن نريد ترشيدها وترشيد النظر فيها والتمييز الحاد بينها كآراء ومقترحات وبين النص القرآنى الإلهى على أنه نص ثابت أزلى أبدى لا يجوز اختراقه ولا تحميله بآراء الناظرين فيه، ونحن نعلم يقينا أن هذا جهد فوق طاقة أى فرد أو أى مذهب وهو فى مسيس الحاجة إلى جهد مؤسسى متخصص يعيد للنص القرآنى وصحيح بيانه النبوى ما يليق بهما من استقلال وتميز دون تلوين ودون لى حسب اتجاهات المذاهب.

ــ3ــ
والآلية الثانية الواجب مراعاتها عند تفسير القرآن أو تأويله هى لغة القرآن أى اللغة العربية، فكثيرا ما قرر القرآن عربية لغته مثل قوله تعالى: ((إِنَا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنا عَرَبِيا))، بل زاد الأمر وضوحا بقوله: ((قُرْآنا عَرَبِيا غَيْرَ ذِى عِوَجٍ..)) أى لا يقع فيه التضاد ولا التناقض بين الألفاظ بعضها وبعض، كما تتناقض بعض مفردات اللغة فى بعض قبائل العرب، فالقرآن نزل مجمعا لجميع البشر، فكيف ينتصر للهجة على أخرى أو لقبيلة على أخرى. فهذه الأقوال الكثيرة المبثوثة فى كتب التفسير والتى تزعم الترادف بين لفظين أو المشترك فى لفظ واحد إلى سائر هذه الحيل اللغوية ينبغى أن يتنزه التفسير عنها حتى لا نلصق بكتاب الله تصور محدود أو ثقافة محلية أو رأى معاصر لصاحبه، وكأن تلك الأقوال البشرية أصبحت وحيا يجاور الوحى. لهذا يجب علينا معاودة النظر فى القرآن نظرة رشيدة بعيدا عن تراث العصور المختلفة والمذاهب المتعددة.


يتبع

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved