جيوش وميليشيات

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الإثنين 24 أغسطس 2015 - 5:45 ص بتوقيت القاهرة

بالقرب من التسويات السياسية المحتملة للأزمات المشتعلة فى الإقليم يتصدر سؤال الجيوش ما عداه من أسئلة.
الاختبار الحقيقى لمدى قدرة أى تسوية على وقف نزيف الدم وتأسيس أوضاع جديدة شبه صلبة، أن تكون الإجابات واضحة، حيث لا يصلح الالتباس.
فى أى دولة بالعالم الجيش هو سند الشرعية وضمانة المصالح العليا.
إن لم تكن هناك مثل هذه الإجابات فكل تسوية سياسية مؤقتة وكل انفجار جديد متوقع.
سؤال الجيوش مؤجل للحظة الجلوس إلى موائد التفاوض فى أربع أزمات عربية مستحكمة.
حيث تتفكك الجيوش تفشل الدول لا محالة والإرهاب يتفشى فيها.
وقد كانت التجربة العربية مريرة عند براكين النار فى العراق وسوريا شرقا وليبيا غربا واليمن بالقرب من الخليج.
المصير العراقى كله وضع أمام مجهول مرعب باللحظة التى قرر فيها السفير الأمريكى «بول بريمر» تفكيك الجيش عند اليوم التالى لاحتلال بغداد عام (2003).
التفكيك عنى بالضبط إنهاء فكرة الدولة نفسها وإفساح المجال أمام محاصصة مذهبية وعرقية تكاد تفضى تداعياتها إلى تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات.
افتقد ما بناه الاحتلال من جيش بديل إلى أى مفاهيم حديثة، ونخرت المذهبية فى روحه، وتفشى الفساد فى بنيانه.
رغم التسليح الأمريكى بدا هذا الجيش عاجزا عن مواجهة «داعش»، وأخلت قواته مواقعها دون طلقة رصاص واحدة تقريبا.
وقد أدان تقرير رسمى ــ تحت ضغط المظاهرات الغاضبة التى عمت مدنا عراقية بسبب تفشى الفساد ــ قيادات سياسية وعسكرية بمسئولية سقوط الموصل، على رأسهم رئيس الوزراء السابق «نورى المالكى».
غير أن القضية تتجاوز الرجل إلى البيئة التى صنعته.
هو يرمز إلى غلبة المذهبية، وهذه لا تزال صلب العملية السياسية المشوهة.
وهو يرمز إلى التفكير فى الجيش كـ«ميليشيا»، وجيش من هذا النوع لا يصلح للقتال ولا للحفاظ على وحدة التراب الوطنى.
بقدر ما كان تفكيك الجيش مقدمة للانهيار العراقى الهائل، فإن إعادة بنائه على أسس وطنية وحديثة تكاد تكون الأمل الأخير فى إنقاذ البلد وصون وحدته.
المصير العراقى ترسمه بالدرجة الأولى حركة السلاح وموازين القوى عند انتهاء الحرب مع «داعش».
حين تحضر إيران فى المواجهات المسلحة، وتركيا ماثلة على الحدود، تكاد مصر مع عالمها العربى أن تغيب بالكامل.
وهذه نقطة تحتاج التفاتا جديا، فأى تقسيم محتمل للعراق ينذر بتقسيمات أخرى فى الخرائط العربية.
أخطار التقسيم لا يمكن استبعادها فى الأزمة السورية الأكثر دموية ومأساوية.
بارتفاع منسوب الكلام الدبلوماسى عن تسوية محتملة والذهاب مجددا إلى «جنيف 3» تصاعدت وتيرة الصدامات المسلحة، فكل طرف يطلب مركز قوة أفضل يملى به شروطه.
فى المناوشات الدبلوماسية عن مستقبل الرئيس السورى «بشار الأسد» يختفى فى الظلال سؤال الجيش.
بأى سيناريو محتمل.. «الأسد» عابر والجيش رقم صعب.
الأزمة السورية بوقائعها وتعقيداتها وتداعياتها أضعفت الجيش على نحو خطير.
لا يمكن لجيش نظامى ــ أيا كانت قوته ــ أن يقاتل نحو أربعة أعوام فيما هو غير مؤهل له من حروب شوارع ومدن دون أن تصيبه أضرار فادحة فى روحه العامة وبنيته الداخلية.
المعضلة الحقيقية فى أى تسوية مفترضة.. أين موضع الجيش؟
السيناريو الأول: تفكيكه بدعوى إعادة بنائه من جديد.
الأطراف المتصادمة معه لن تقبل به كقاعدة للدولة وسند للشرعية، باعتباره طرفا فى الحرب.
هذا فوق طاقتها التفاوضية، فالنظام السورى مادام طرفا رئيسى فى أى مفاوضات منتظرة لن يقبل تفكيك جيشه.
فضلا على أن أطرافا دولية وإقليمية نافذة لن تقبل هذا الخيار.
من ناحية واقعية فإنه الأكثر تأهيلا من غيره لمواجهة «داعش» بعد أى تسوية محتملة.
فالجيش الوطنى الحر وزنه العسكرى شبه رمزى، وما تسمى المعارضة المسلحة تقودها «جبهة النصرة» التى تنتسب مباشرة إلى القاعدة.
والسيناريو الثانى، دمج بعض الجماعات المسلحة المدنية فى بنية الجيش، غير أنه يصعب تنفيذه.
بنية الجيوش ــ أيا كان تصدعها ــ غير ثقافة الميليشيات مهما بلغت قوتها.
معضلة الجيوش والميليشيات تعترض الأزمة اليمنية بصورة أخرى.
الجيش اليمنى تتوزع قواته بين أطراف الصراع، والتقدم الميدانى لأنصار الشرعية ينسب إلى لجان المقاومة الشعبية.
مقاتلون متطوعون قبليون فى الغالب لا جنود محترفين يخضعون لسلطة الدولة.
الدول لا تتأسس على لجان شعبية مسلحة، أيا كان دورها فى تعديل موازين القوى.
هناك خشية أن تنزع قوى نافذة فى الجنوب إلى الانفصال بعد دحر الحوثيين وقوات الرئيس السابق «على عبدالله صالح» من كل محافظاته تقريبا.
وقد رفعت أعلام اليمن الجنوبى لا اليمن الموحد فوق البنايات الحكومية فى عدن.
وهناك خشية أخرى أن تحصد قوى متأهبة فى الشمال ــ كحزب الإصلاح ــ السلطة كهدية مجانية، دون أن يكون لها دور يعتد به فى تعديل موازين القوى.
هذا الحزب مزيج قبلى وإسلامى، متداخل فى اللعبة التقليدية ومشدود إلى جماعة الإخوان المسلمين.
أى عمل عسكرى فهو سياسى، فإن لم تكن هناك رؤية سياسية لما بعد الحرب فقد تذهب نتائجها إلى حيث لم يكن يتصور أحد.
إعادة بناء الجيش كلمة السر فى إعادة بناء الدولة أو أن يلحق اليمن عصره بثقة فى نفسه.
الشرط الرئيسى للنجاح فى هذه المهمة الصعبة أن يكون الجيش للدولة لا للقبيلة ولا للرئيس وعائلته.
فى ليبيا تتجلى الأزمة نفسها بطبعة مختلفة.
الجيش الليبى جرى تفكيكه إلى حد كبير باسم الجماهيرية، وتعرض لضربات قاصمة من طائرات الناتو قبل تسليم البلد إلى الفوضى.
المعضلة الكبرى فى المفاوضات التى يجريها المبعوث الدولى «برناردينو ليون» هى مستقبل الجيش الوطنى الليبى الذى يترأسه الفريق «خليفة حفتر».
هل هو ميليشيا من ضمن الميليشيات أم هو قاعدة الدولة الجديدة؟
هل بقاء «حفتر» عبء على التسوية المحتملة أم أنه من لزوم إعادة تأهيل الجيش بعد رفع حظر التسليح عنه لمواجهة جدية مع «داعش» فى «سرت» التى قد تتمدد إلى مناطق أخرى؟
ما مستقبل ميليشيات «فجر ليبيا».. وما القوات التى تدخل فى العملية السلمية.. وما القوات التى يتعين حربها بوصفها إرهابية؟
هذا الملف مصرى بقدر ما هو ليبى.
لا إجابات سهلة عن أسئلة صعبة، وكل شىء معلق على موازين القوى فى الداخل وإرادات اللاعبين الإقليميين.
أسئلة الجيوش فى الملفات المشتعلة بالنيران لا سبيل إلى تجاوزها فى أى تسويات محتملة أو بأى نظرة للمستقبل.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved