مرسى ورومنى: حالة انكشاف

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الإثنين 24 سبتمبر 2012 - 8:35 ص بتوقيت القاهرة

أخذ «إريك رولو» الدبلوماسى والصحفى الفرنسى، وشهرته واصلة إلى العالم العربى، يستعرض ملامح الموقف الاستراتيجى المستجد فى المنطقة بعد احتلال بغداد فى عام (٢٠٠٣).. وكان عنده سؤال يشغله عن العلاقات المعقدة بين ثلاثة رؤساء: المصرى «حسنى مبارك» والفرنسى «جاك شيراك» والأمريكى «جورج بوش».

 

لم تبدر عنه إشارة إعجاب واحدة بأى من الرجال الثلاثة، فالأول شخصيته متوارية خلف سياسات تتبع ما تريد واشنطن، وليس فيها ما يثير اهتمامه.. والثانى شخصيته تناقض ما يتصوره عن مواصفات الرئاسة الفرنسية.. والثالث ــ شخصيته تتصادم مع اعتقاداته فى السياسة الدولية.

 

كان حائرا فى تفسير ظواهر تجرى أمامه، فـ«مبارك» يذهب عادة إلى باريس فى طريقه إلى واشنطن والعلاقة معها حميمة بينما علاقاته فى العاصمة الأمريكية متوترة والمشاعر السلبية بادية على الرئيس «جورج بوش»، رغم أن الثلاثة فى الحرب على العراق تبنوا مواقف متقاربة تماما.

 

فى تلك الأيام البعيدة سألنى «إريك رولو« على مائدة غداء فى فندق بيروتى: «هل لديك تفسير؟». لم يكن هناك من هو أدرى منه بإجابة هذا السؤال الذى يحيره، فقد عمل بقصر الإليزيه مستشارا للرئيس الفرنسى الاشتراكى «فرانسوا ميتران»، وخبرته بالمنطقة امتدت لعقود، فهو مصرى الأصل يعرف أحياء القاهرة ويروى نكاتها، وجمعته صداقات وطيدة بصحفيين مصريين كبار من بينهم «محمد حسنين هيكل» و«لطفى الخولى» و«محمد سيد أحمد» و«محمد عودة». عمل سفيرا فى تونس بعد نقل مقر الجامعة العربية إليها وتولى المنصب ذاته فى تركيا عند لحظة تحول أخرى. هو سفير فوق العادة تزكيه قدراته الصحفية كواحد من أهم كُتاب صحيفة «لوموند».

 

المثير فى سؤاله الحائر أن «مبارك» احتذى السياسة الأمريكية على عهد «جورج بوش».. وفر غطاء عربيا لاحتلال العراق وفى العدوان على لبنان وغزة، تعاون استخباراتيا فيما يطلق عليه «الحرب على الإرهاب»، كانت تحكمه فكرة أن الإدارة الأمريكية تضمن أمن نظامه، وقد تضمن من بعده عملية توريث السلطة لنجله. التناقض كان فادحا بين السياسات الواقعية والمشاعر الشخصية، الأولى متطابقة والثانية متوترة. الفجوة ظاهرة ولكنها لا تؤثر على الأحداث ومجراها. النظام كله، بمراكزه الاقتصادية والاستراتيجية، موصول بالسياسات الأمريكية وشبكة المصالح المرتبطة بها، البنتاجون حاضر فى المشهد، وسيناء رهينة عند إسرائيل وفق ترتيبات «كامب ديفيد».

 

الفجوة بين المصالح والمشاعر ردمتها الضغوطات المتواصلة. كان «مبارك» فى لقاءاته، التى لم تكن للنشر، ينال من «بوش» وينتقده بخشونة. لم يكن العنف اللفظى فى غرف مغلقة له قيمة أو أثر فى حركة الأحداث.

 

مرة أخرى قد يجد «رولو»، الذى ينشر مذكراته الآن، نفسه أمام ذات السؤال الحائر فى ظروف مختلفة مع رجال آخرين.

 

فى حالة وصول المرشح الجمهورى «ميت رومنى» للبيت الأبيض فإنه قد يستنسخ مع «محمد مرسى» تجربة «جورج بوش» مع «حسنى مبارك».

 

وقت الضغوط قد حل واستحقاقات الحساب الأمريكى فى صعود الإسلاميين للسلطة جاء وقتها.

 

لا شىء مجانى فى حسابات الدول الكبرى والاستراتيجيات التى تتبناها. الإدارة الأمريكية لعبت ضغوطها دورا حاسما فى إعلان الدكتور «مرسى» رئيسا، وأعطت تاليا ضوءا أخضر لإنهاء ازدواج السلطة بين الرئاسة والعسكرى. وكان ذلك رهانا على رؤى استراتيجية اعتقدت بأن صعود الإسلاميين إلى السلطة فى دول «الربيع العربى» يمكن أن يوفر للسياسة الأمريكية حلفاء جدد لهم شعبية فى الشارع وعندهم استعداد لإجراء تفاهمات فى الملفات الإقليمية تخالف ما عهد عنهم من قبل. ويمتد الرهان الأمريكى إلى أن مثل هذا الصعود يساعد فى حصار إيران «الشيعية»، وأن يأخذ الصراع المذهبى مداه بدعم مصرى ــ سعودى. الرهانات تخضع لحساباتها، ومن بين الحسابات حالة الانكشاف الاستراتيجى المصرى.

 

عند تسديد الفواتير فإن الضغوط قد تتواصل على طريقة «جورج بوش» دون اعتبار للياقات الدبلوماسية. شخصية «رومنى» مرشحة لمثل هذا الاستنساخ، فعباراته تخذله واندفاعاته تتدفق خارج مجراها، وقد استخدم مقتل السفير الأمريكى فى بنغازى مسحولا لشن حملة ضارية على منافسه الديمقراطى «باراك أوباما».. والأخير قد يلجأ بدوره إلى مراجعات للملف ذاته ولكن بأسلوب مختلف. كلاهما لن يفرط فى العلاقة الاستراتيجية مع مصر، وكلاهما سوف يضع الرئيس الجديد تحت الضغط المتواصل على أعصاب الاقتصاد المصرى المنهك وأعصاب الأمن القومى المستباح فى سيناء طلبا لمواقف بعينها فى أزمات قد تطرأ. فى زيارته الأمريكية تنتظر «مرسى» ضغوطا مبكرة من «أوباما « و«رومنى» معا، وسوف يخضع لاستجوابات مسهبة من وسائل الإعلام حول الملفات الملغومة: التطبيع مع إسرائيل وعلاقاته مع «حماس» والمواجهة مع إيران والحرب فى سوريا فضلا عن ملفات داخلية مشتعلة كوضع الأقباط والمرأة وقضايا الحريات.

 

«محمد مرسى» ليس «حسنى مبارك»، أوجه التباين متعددة، ولكنه سيجد نفسه بالمحصلة الأخيرة داخل الدائرة ذاتها.

 

حقائق القوة تفرض نفسها، والأدوار الإقليمية لا تصنعها النوايا الحسنة وحدها. استنساخ النظام السابق فى السياسات الداخلية يفضى بالضرورة إلى استنساخه فى سياساته الإقليمية والدولية. الأداء المرتبك يغرى بالضغوط والإمعان فيها. وقد يتعرض «مرسى» إلى اختبارات عملية فى علاقاته مع إسرائيل تدعوه للقاء «بنيامين نتانياهو»، الذى صرح بأن الرئيس المصرى يتعمد تجنب ذكر اسم إسرائيل فى خطاباته المتكررة.

 

معضلة الرئيس «مرسى» أنه يواجه انكشافا استراتيجيا فى سيناء دون مناعة كافية فى المجتمع، فالجماعة التى ينتمى إليها تعمل على الاستحواذ بمفردها على مفاصل الدولة، والجمعية التأسيسية توشك أن تضع بالغلبة دستورا يعمق التناقض فى البلد، وهو محكوم عليه بالبطلان شأن ما جرى فى التعديلات الدستورية على عهد «مبارك»، والتظاهرات الاجتماعية تعاود زخمها بينما حكومته تعلن نيتها رفع الدعم عن الوقود والسلع الرئيسية وهو ما لم يجرؤ عليه النظام السابق.

 

يبدو «مرسى»، وهو يتأهب لرحلته الأمريكية، مرهونا بما يجرى فى سيناء، فقد باتت أشبه بمسرح عمليات لحرب عصابات من نوع جديد، خريطة جماعات العنف تعقدت وترسانات السلاح لديها تضخمت، والقوات المصرية مقيدة التسليح وفق الترتيبات الأمنية فى «كامب ديفيد».

 

حسم قضية الأمن فى سيناء تستدعى نسقا شاملا أمنيا وعسكريا وسياسيا واجتماعيا، فالسلاح بلا مجتمع وراءه خسارته مؤكدة، والأمن بلا سياسة تغطيه معركته فاشلة.

 

الرأى العام لا يعرف: ما هى بالضبط طبيعة المهمة المسنودة للجيش.. وما هى نتائج العملية «نسر» حتى الآن؟

 

 الخطاب الرسمى قال إن الجيش يقوم بعملية كبرى لتطهير سيناء، ثم بدأ يتراجع خطوة بعد أخرى إلى أن صمت تماما. المعلومات المؤكدة منسوبة لمصادر عسكرية عليا توصف ما يجرى فى سيناء الآن على نحو مختلف، فالعمليات «أمنية» لا «عسكرية»، الدور الرئيسى فيها لقوات الأمن العائدة إلى مواقعها وأدوارها لا لقوات الجيش التى يقتصر دورها على تقديم الخدمات اللوجستية وما يحتاجه الأمن من سلاح وذخائر وأية مساندات أخرى، الكلام بظاهره يعنى أن هناك مراجعة ما لدور الجيش فى عمليات سيناء.

 

ما هو تحت التعتيم الإعلامى فى القاهرة حقائقه ظاهرة فى واشنطن.. وحسم مصير سيناء يتوقف على تماسك المجتمع المصرى كله.

 

ماذا يريد الرئيس بالضبط؟.

 

حتى الآن لا يبدى استعدادا كافيا للخروج من عباءة النظام السابق.

 

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved