قانون إعدام مدنى

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 24 سبتمبر 2017 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

لا توجد حكمة واحدة فى إدخال تعديلات جديدة على قانون الجنسية فى مصر تنطوى على مزالق وأخطار يصعب تجنبها ـ كأن البلد تنقصه أزمات جديدة.
بالتعريف فهو من القوانين المكملة للدستور والشرط الرئيسى لسلامته أن يلتزم النص الدستورى ولا يخرج عليه.
وفق مادته السادسة: «الجنسية حق لمن يولد لأب مصرى، أو لأم مصرية، والاعتراف القانونى به ومنحه أوراقا رسمية تثبت بياناته الشخصية، حق يكفله القانون وينظمه».
هكذا بوضوح الجنسية حق مكفول ولصيق بالإنسان وجزء لا يتجزأ من الحقوق الأساسية للمواطنين والقانون ينظم الاعتراف به ولا يتعدى عليه بأية ذريعة.
أقل ما توصف به التعديلات على قانون الجنسية، التى أقرها مجلس الوزراء تمهيدا لعرضها على المجلس النيابى، بأنها «غير دستورية» ـ وفق إجماع الفقهاء القانونيين.
فى القضايا بالغة الخطورة والحساسية، كمسألة الجنسية، لا يصح أن تمضى الأمور باستعجال فى إجراء، أو خفة فى صياغة، فالنتائج السياسية فادحة.
بنص البيان الرسمى لمجلس الوزراء تقر التعديلات سحب الجنسية من «كل من اكتسبها عن طريق الغش، أو بناء على أقوال كاذبة، أو بعد صدور حكم قضائى يثبت انضمام صاحب الجنسية إلى أى جماعة، أو جمعية، أو جهة، أو منظمة، أو عصابة، أو أى كيان، يهدف للمساس بالنظام العام للدولة، أو تقويض النظام الاجتماعى، أو الاقتصادى، أو السياسى».
هناك فارق جوهرى بين الجنسية الأصلية والجنسية المكتسبة والخلط بينهما خطأ فادح.
شأن ما توصف ـ عادة ـ بالقوانين سيئة السمعة الصياغات فضفاضة، فلا انضباط فى مفاهيم، وكل جملة معلقة على تأويلات لا نهاية لها.
أسوأ ما فى تلك الصياغات الفضفاضة إطلاق عموم الاتهام، الذى قد يسقط الجنسية، على أمور بالغة التناقض.
لا نكاد نعرف من هو المخاطب بالقانون.
قد يقال إن القصد محاربة الإرهاب وجماعاته والمحرضين عليه.
غير أن النص المنسوب ـ رسميا ـ إلى مجلس الوزراء لم يشر بحرف واحد إلى الكيانات الإرهابية، ولا إلى الإرهاب نفسه.
بافتراض أن الإرهاب هو المستهدف بالتشريع العقابى الجديد، فالأمر يحتاج إلى نقاش مستفيض فى إستراتيجية مكافحته ومدى كفاءتها فى مواجهة أخطاره ولماذا لم نتمكن ـ حتى الآن ـ من تقويض قدرته على التمركز والضرب فى الوجع من حين لآخر؟
فيما هو متواتر من كلام فإن المواجهة تستلزم مجمل قدرات الدولة والمجتمع وأن تشمل الجوانب الفكرية والاجتماعية والسياسية، كما الأمنية والقانونية، غير أن الكلام لا يغادر منصاته ولا شىء يطرح على المجتمع سوى التشديد العقابى، حتى باتت هناك تخمة قوانين وإجراءات دون أن تسفر عن حسم المواجهة، رغم التضحيات الهائلة التى دفعت أثمانها.
السؤال ضرورى هنا: هل استطلع رأى المجلس الأعلى لمكافحة الإرهاب، الذى شكل حديثا، فى تعديلات قانون الجنسية، أم أنه قرأها فى الصحف؟
إذا كانت الإجابة بالنفى، وهذا أرجح، فالمعنى أننا ننشئ مؤسسات بلا أدوار ونتحدث عن استراتيجيات المواجهة دون أن نعنيها فعلا.
وبافتراض أن النصوص الفضفاضة فى التشريع المقترح تستهدف كل فعل سياسى، أيا كانت شرعيته الدستورية والقانونية، إذا رأت جهة ما أن فيه مساسا بالنظام العام للدولة، أو تقويضا للنظام الاجتماعى، أو الاقتصادى، أو السياسى، فإننا أمام أسوأ قانون فى التاريخ المصرى الحديث كله يكاد أن يكون قانونا للإعدام المدنى.
الجنسية مسألة وجود وسحبها إعدام مدنى.
ذلك يستدعى التدقيق والتروى حتى لا يروع المجتمع بقوانين متفلتة من أى قيد دستورى أو إنسانى ويساء إلى سمعة مصر فى عالمها بأكثر مما هى عليه الآن.
إثارة المخاوف على هذا النحو لا تساعد البلد على التماسك الوطنى الضرورى فى مواجهة أزماته المستعصية وتعمق من مشاعر الإحباط واليأس من أى مستقبل.
من المؤكد أن المحكمة الدستورية العليا ـ وفق فقهاء القانون ـ سوف تسقط هذه التعديلات، إذا ما أقرها مجلس النواب، عندما تعرض عليها، كما أسقطت من قبل قوانين مشابهة وصفت بأنها «سيئة السمعة» مثل «قانون حماية الجبهة الداخلية والسلام الاجتماعى»، الذى انطوى على عبارات فضفاضة سوغت العزل السياسى دون أن تذهب إلى الإعدام المدنى.
استسهال سحب الجنسية، دون إجراءات منضبطة ودستورية، تطور تشريعى خطير.
إذا ما أدين أحد ما بحكم قضائى فى جريمة إرهابية فهناك عقوبات قانونية بالتبعية مثل إدراج اسمه على قوائم الإرهاب ووضعه تحت مراقبة الشرطة والتحفظ على أمواله.
إحدى مشاكل القانون الجديد أنه يتعامل مع سحب الجنسية باعتبارها عقوبة أخرى بالتبعية دون أن يكون هناك فى مصر قانون ينظم وضع «عديم الجنسية».
كما أن إسقاط الجنسية يسقط فى الوقت نفسه ولاية الدولة على مواطنيها وحق ملاحقة مرتكبى الجرائم فى الخارج وفق القوانين الدولية.
إذا لم يكن المتهم من مواطنيك فبأى حق تلاحقه؟
وإذا ما أسقطت الجنسية عن مواطن يقضى محكوميته فى السجون، فبأى حق تحبسه؟
التعقيدات السياسية لا تتوقف عند هذا الحد، فباليقين تؤذى تعديلات قانون الجنسية بفداحة كل فرصة لجذب الاستثمارات الأجنبية، أو تحسين صورة البلد فى عالمه، التى تضررت بقسوة.
بالإضافة إلى ذلك كله فهناك سؤال افتراضى: إذا ما سحبت الجنسية عن شخصيات لها حضور دولى، سواء كانت فى السجون الآن، أو قد تتهم فى المستقبل، فقررت دولة أخرى لأية أسباب تراها أن تمنحهم جنسيتها، فماذا يحدث؟
سوف تطالب بتسلم مواطنيها الجدد، الذين منحتهم جنسيتها للتو، استنادا لقوانين دولية، ومصرية أيضا.
وفق المادة الثانية والستين من الدستور المصرى فإنه «لا يجوز إبعاد أى مواطن عن إقليم الدولة، ولا منعه من العودة إليه».
وقد تعرض زعماء مصريون تاريخيون لهذه العقوبة من بينهم «أحمد عرابى» و«سعد زغلول».
فى ذلك الوقت لم تكن هناك قوانين تنظم الجنسية، فإذا ما تصورنا أن العقلية التى صاغت التعديلات الجديدة خولت النظر فى مصير الزعيمين الكبيرين، فربما كانت أشد تطرفا من سلطات الاحتلال البريطانى، التى لم تسقط صلتهما بالوطن المصرى ولا حكمت عليهما بالإعدام المدنى.
الإبعاد مجرم دستوريا، لكنه يجوز المنع من مغادرة إقليم الدولة، أو فرض الإقامة الجبرية عليه، أو حظر الإقامة فى جهة معينة بأمر قضائى مسبب ولمدة محددة.
فلسفة الدستور غابت عن القانون المقترح، كأنهما خصمان لدودان.
الأول، ينتسب إلى العصر الحديث وقيمه.. والثانى، أقرب إلى العصور الموغلة فى القدم، حيث كان بوسع القيصر الرومانى، قبل التطور الذى لحق بالإمبراطورية من حيث شيوع الفكر القانونى واتساع شبكات الطرق، أن يعتبر نفسه هو القانون، يضعه بالهوى ويحكم به أثناء نظر القضايا.
بتلخيص ما يصعب حصر حجم الضرر السياسى من جراء التعديلات المقترحة.
بذات القدر فإن آثاره الاجتماعية سلبية، حيث يمثل ردة عما حصلت عليه المرأة المصرية المتزوجة بأجنبى من حق منح أبنائها الجنسية، وقد كانت تلك معركة طويلة ومشرفة لكل الذين دعموها.
مشروع القانون الجديد يحذف عن أولادها البالغين حق اكتساب الجنسية ولا يمنعها عن القصر، وذلك إخلال جسيم بقاعدة المساواة يهدد استقرار الأسرة.
النزعة الضيقة والرجعية تكاد أن تكون الملمح الرئيسى لتشريع فضفاض فى عباراته ويجمع بين مراكز قانونية ليست واحدة.
فى ذلك التشريع المقترح كل كلمة ملغمة وكل معنى فضفاض، وكل خطر ماثل، ويصعب أن يمر بلا أثمان باهظة.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved