«الدائـرة».. والمستقبل المرعب

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 24 أكتوبر 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

الخوف الذى شعرت به قبل عقود وأنا أقرأ كتاب جورج أورويل «1984» وكتاب آلدوس هاكسلى «عالم شجاع جديد» عدت أشعر به وأنا اقرأ عشرات العروض لكتاب صدر منذ أسبوعين لدافيد إيجرز بعنوان «الدائرة». أورويل كان يحذرنا من جماعة أو حزب سياسى يعتزم إعادة كتابة الماضى وإدارة أمور الحاضر ويقيم حكومة «ترى كل شيء وتعرف كل شيء»، وتكون أهم وزارة فيها وزارة الحقيقة التى تقوم على شعارات ثلاثة يجب أن يحفظها الشعب ويرددها. أما الشعارات فهى شعار الحرب هى السلام وشعار الحرية هى العبودية وشعار الجهل هو القوة.

مرت سنوات على خوفى الأول وجاء خوفى الثانى فكان أشد. فى الحالة الاولى كنا نعيش بين الفينة والأخرى محاولات الحكام المستمرة لاستعارة فكرة أو فكرتين من النظام السياسى الذى تخيله جورج أورويل. عشنا فى ظل رقابة متقطعة نحمد الله انها كانت قاصرة وعاجزة بسبب نقص كفاءة موظفى الرقابة. كانت الرقابة ضعيفة وإن قمعية. وعشنا فى ظل محاولات الأمن الداخلى التنصت على مكالماتنا الهاتفية وقراءة رسائلنا الخطية ولكن من حسن حظنا كنا نسمع على الهاتف اشارة بدء التنصت فنتحادث بحرص، فضلا عن أن رسائلنا الخطية كانت تصل إلينا فى مظاريف معاد غلقها وملصق بها ما يشبه الاعتذار من جهات الرقابة عن  فتحها وقراءة المحتوى. لم تكن البيروقراطية المتخلفة مؤهلة لتنفيذ مشروع جورج اورويل للرقابة على المواطنين كما أنها لم تكن مؤهلة لإقامة وزارة «الحقيقة» بالمعنى الذى قصده أورويل. كانت وزارات الإعلام والثقافة فى معظم الاحيان، فى مصر وفى غير مصر، مثار سخرية الناس ولم يأخذ المواطنون شعاراتها مأخذ الثقة والجدية. بشكل ما وبمعنى ما لم يشارك المواطنون بحماسة فى إقامة دولة الاستبداد. ربما شارك بعضنا بسلبيته أو بنفاقه وانتهازيته ولكن بالتأكيد لم تشارك الأغلبية بالاقتناع والايمان. قامت دولة الاستبداد الهزيلة فى عديد الدول العربية ولكن لم تقم فى واحدة منها دولة جورج أورويل.

●●●

الخوف الذى اعترانى وانا أقرأ العروض وأسمع التعليقات على كتاب «الدائرة» مختلف.  سبب الاختلاف واضح فى ذهنى تماما. فأنا وغيرى من الملايين المستفيدين من الانترنت ومن منتجات شركات مثل جوجل والفيسبوك وتويتر وغيرها مشاركون بحماسة واندفاع وإيمان مطلق فى صنع هذا المستقبل الذى تخيلته هذه الشركات مجتمعة أو منفردة التى اختارت وادى السيليكون فى الغرب الأمريكى موقعا لها. وبالتدرج المتسارع وجدنا أنفسنا نؤمن بشعاراتها «المقدسة». من هذه الشعارات شعار «المشاركة حب وتعاطف»، وشعار «الاسرار أكاذيب» وشعار «الخصوصية سرقة». أنا وأنت وكل من يتعاطى الرسائل النصية والبريد الالكترونى ورسائل الفيسبوك نسعى وراء بعض النميمة. نسعى وراء النميمة مقابل تنازلنا عن حقنا فى خصوصيتنا. نريد أن نقرأ أو نسمع عن خصوصيات الآخرين أكثر من اهتمامنا بأن نحمى خصوصياتنا. صرنا مثل أباطرة وادى السيليكون نؤمن بأن الخصوصية سرقة وأنه لا يجوز أن نمتلك رصيدا خاصا بنا على مستوى المعلومات أو المعرفة. أليست هذه الحالة التى وصلنا إليها تستحق صفة «شيوعية المعرفة». نعيش حالة اقرب ما تكون إلى الحالة الشيوعية حيث لا أحد يحق له امتلاك معلومة تخصه وحده أو عائلته أو المجتمع الذى نعيش فيه.

ذكرنى احد العروض بكتابات بيير جوزيف برودون فى القرن التاسع عشر عندما كان يقول إن الملكية الخاصة سرقة. هذا بالضبط ما يؤكده الآن الحكماء فى وادى السيليكون. يقول هؤلاء العباقرة إنه لا يوجد أساس مشروع للخصوصية وإن شركاتهم عندما تذيع اسرار الناس من دون استئذانهم فإنما تقوم بعمل حضارى عظيم لأنها بما تفعل تقضى على خرافات وخزعبلات بدائية مثل التكتم على ممارسة الجنس والدخول فى علاقات خاصة خلسة.

لا نية سيئة لدى شركات التكنولوجيا، فهى عندما تشن حملة من أجل زرع شرائح فى مخ الأطفال للتعرف على أماكن وجودهم فإنهم يهدفون إلى منع اختطاف الاطفال. وعندما يدعون إلى تحرير الخصوصية واعتناق الشفافية فإنهم فى الحقيقة يمهدون الطريق للتخلص من الاستبداد. بل إن بعضهم يعتقد وبقوة أن ما تقوم به هذه الشركات هو بشكل من الأشكال «حركة تحرر» جديدة ضد استبداد الخصوصية والتكتم وعوالم السرية. يقول أحد المؤسسين إنهم حين يقيمون كاميرات التصوير على الشواطئ وفى «ميدان التحرير فى القاهرة أو ميدان السلام السماوى فى بكين» فلأنهم يريدون منع تحرش قوات الشرطة والأمن بالمتظاهرين.

وعندما يدعون كل مواطن ليرتدى قلادة مدلى منها كاميرا دقيقة جدا فالهدف هنا أيضا حمايته، فضلا عن أن الكاميرا تسجل ما يفعله بحياته من المهد إلى اللحد ودقيقة بدقيقة. لا أستبعد أن يوما سيأتى تطلب فيه منا قوات الأمن والتجسس تسليمها شريط الكاميرا دوريا لتطلع على محتوياته أو تحتفظ به فى سجلاتها.

أليس ظلما أن يذهب أحدكم فيقضى ليلة ساهرة يرقص فيها حتى الصباح وينعم بصحبة الجميلات والأنيقات بينما مواطن آخر أقعده المرض أو العجز ينام فى فراشه لا يحظى بمتعة مماثلة؟ لماذا لا نسمح له بأن يشارك من خلال الكاميرا التى يحملها فى عنقه زميله الاسعد حظا؟ ألا تحقق هذه المشاركة نوعا من العدالة الاجتماعية والانسانية ومساواة كالشيوعية التى كان يحلم بها كثير من الرومانسيين فى القرنين التاسع عشر والعشرين؟ ألا نرى فى هذا التقاسم وجماعية المعرفة ما يقربنا جميعا من أفكار ماوتسى تونج وغيره من الماركسيين.

هل من العدل أن ترى شيئا جديدا أو تسعد بصحبة شخص ممتع من دون أن تطلع من حولك على ما رأيت وسمعت، وتشركهم معك؟ حكماء وادى السيليكون يقولون إنك إذا حرمتهم من هذه المشاركة فأنت تسرقهم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved