تجليات الغيطانى الأخيرة

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: السبت 24 أكتوبر 2015 - 5:00 ص بتوقيت القاهرة

لم يكتب سيرته الذاتية لكنه أودع تجربته الوجدانية فى «كتاب التجليات».
فى مثل هذه التجارب تتدفق الاعترافات بلا تكلف ولا ادعاء.
فلسفة الحياة والموت، معنى الأشياء التى تسكن الروح وأثر التجارب التى تحفر بصماتها فى الضمير.
‫«‬يقول البقال: أبدا لن أبيعك بقرش واحد، صعب على حال أبيك، أعلم يا ولدى أن أوعر شىء عند المرأة أن ترى رجلها منكسرا، أو مهانا».
‫«‬يا جمال.. أبوكم تعب، أبوكم ذاق المر، يومها قلت له أن يبيع السرير، يمكننا النوم فوق الأرض، لكن.. لا يمكن أن يقف هذا الموقف أبدا».
شجاعة الاعتراف من صدق العمل الأدبى.
لم يكن هناك شىء يخجله، فقد جاءت أسرته الفقيرة من عمق الصعيد تبحث عن فرصتها فى الحياة بشرف.
رغم قهر الظروف وشظف المعيشة بدا «أحمد الغيطانى» أسطورة إنسانية فى عين ابنه الأديب.
هو أحد أبطال عمله الأدبى الأهم مع «حبيبى وقرة عينى ورفيق تجلياتى، وملاذ همومى ومقيل عثراتى، إمامى الحسين سيد الشهداء».. و«مولاى الشيخ الأكبر محيى الدين بن عربى».. و«عبدالناصر» الذى تتماهى صورته مع صورة الأب، فالصوت يتداخل حتى خيل إليه فى تجلياته أن «عبدالناصر» يخاطبه بصوت أبيه.
‫«‬رأيت ملامح أبى فى جسم عبدالناصر، يرتدى طربوشا أحمر وجلبابا أخضر من الصوف، هو أبى وهو عبدالناصر».
فى تداخل الأزمان والشخوص والتاريخى والمتخيل تجلت موهبته فى بناء عالم روائى يخصه وحده بلغة جدتها فى قدمها.
التداخل المثير تصدرته أحاديث الفراق.
أول جملة فى تجلياته: «لو أعرف للفراق موطنا، لسعيت إليه، وفرقته..».
تنبنى فلسفته على أن «‬ما من شىء يثبت على حاله، لو حدث ذلك لصار العدم، كل شىء فى فراق دائم، الإنسان يفارق الدنيا إلى آخرة مجهولة بلا آخر، البصر يفارق العين إلى المرئى، ثم يفارق المرئى إلى البصر، الليل يفارق النهار، والنهار يفارق الليل».. ‫«‬حتى الأشياء التى ظننا أنها باقية أبدا، حتى الأيام التى اعتقدنا أنها لن تتبدل قط».
كأستاذه «نجيب محفوظ» لم يكن يعتقد فى «خلود الأديب» أيا كان دوره وإسهامه، فـ«كل شىء سوف يطويه الزمن بعد حين» على ما قال ذات مرة.
رغم ذلك هناك شىء جوهرى يستعصى على النسيان والمحو، فلا شىء يولد من فراغ فى العلم والمعرفة والسياسة والأدب والإبداع.
هو نفسه استشعر قسوة النسيان.
فى تجلياته أمام قبر والده نعى ما سوف يكون: «قلت لنفسى ولم أقل لمخلوق.. أليس فى هذا جور؟.. أليس فى ذلك قسوة؟.. هذا العمر، تلك المعاناة الطويلة، تلك الأيام والليالى، هل تنتهى هنا وتصبح نسيا منسيا، هل يبهت أثره، ويضيع خبره هنا؟».
مرة بعد أخرى عاد إلى نفس المعنى:
‫«..‬ اسمى سيتساقط كورقة جافة من شجرة الأصل والسلالة».
‫لم يكن يهاب الموت لكنه استشعر وحشة الفراق.‬
«إننى عشت زمن الحرب، واجهت الموت، رأيت استقرار الشظايا‬ بعد مروق. رأيت تفجر المبانى، والآليات، رأيت آلام الجراح لحظة الميلاد على الوجوه، أفزعنى مرور المقاتلات الاعتراضية والقاصفات الأرضية على ارتفاع منخفض حتى أننى لمحت ألوان خوذات الطيارين».
باغته الموت وهو الذى خشى فى تجلياته أن يأتيه فجأة.
‫«‬بدأ زمن الفراق والفقد من قبل أن أعد له العدة».
لا ودع أحدا من أحبائه كما فعل والده الذى مر على بيوت قريته عندما اقترب أجله ليلقى السلام الأخير.
عندما أخذ صديقه الحميم «عبدالرحمن الأبنودى» يتصل بمن يحب مودعا، وهو يرى نهايته تقترب، قال لى: «هذا ما فعله أبى».
هو و«الأبنودى» جاء من صلب الصعيد بإرثه وكبريائه وعناده.
كلاهما ينتمى إلى جيل الستينيات بأحلامه واحباطاته، انتقدا النظام الناصرى ومرا على سجونه لكنهما ظلا ينتميان حتى النهاية إلى حلمه.
رغم عثرات البدايات كان هناك من هو مستعد من كبار الكتاب والأدباء أن يتبنى المواهب ويفتح الأبواب المغلقة أمامها.
فى حالة «الأبنودى» و«الغيطانى» فإن الحركة النقدية تحمست لهما.
أفسحت الصفحة الأدبية فى جريدة «المساء» تحت رئاسة الأديب الراحل «عبدالفتاح الجمل» مجال النشر أمامهما.
جيل كامل من كبار المبدعين خرج من عباءة هذه الصفحة وهذا الرجل.
هو الأب الروحى لجيل الستينيات على سبيل اليقين والجزم.
كما حظيا بدعم معنوى هائل من الكاتب الصحفى الكبير «محمد عودة».
كان من عادة الأستاذ «عودة» أن يضم إلى جلساته اليومية شبانا موهوبين يتلمسون طريقهم بصعوبة.
كل من لمع اسمه مر عليه، وكل من مر احتفظ بدفء أبوته حتى النهاية.
عندما أصدر عمله الأول «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» عام (١٩٦٩) خطر للأستاذ «عودة» أن يقدم الأديب الموهوب إلى روائى شهرته تطبق الأفاق وموهبته لا مثيل لها فى القص.
قال له: «هذا خليفتك».
كانت صدمة هائلة الطريقة التى تصرف بها الأديب العظيم مع الروائى الشاب.
نحى روايته بقسوة قبل أن يقرأ حرفا واحدا وعاتب «عودة» أمامه: «هل يعقل أن تأتى لى من وقت لآخر بمن تقول إنه خليفتى».
تركت هذه القصة العابرة جرحا غائرا أخذ وقتا طويلا حتى اندمل.
لم يتحدث عنها أبدا إلا مع أصدقاء مقربين فى التجليات الإنسانية.
فى ذلك اليوم البعيد قال «عودة»: «ثق فى نفسك وواصل طريقك فسوف يأتى يوم يعترف هو وغيره بموهبتك».
الاحتضان نفسه تكرر مع نقاد وأدباء كثيرين من نفس الجيل.
أبوة «عودة» تمتع بها آخرون مثل «بهاء طاهر» و«رجاء النقاش» و«يوسف القعيد».
«الغيطانى» و«الأبنودى» حظيا بأبوة أخرى من الأستاذ «محمد حسنين هيكل».
الأول رأى فى كتاباته الصحفية أدبا روائيا رفيعا والثانى وجد فيه شاعرا مطبوعا.
و«هيكل» رأى فى الاثنين تعبيرا عن قدرة الصعيد على تقديم المواهب الكبرى.
فى تجربتهما أشياء أخرى مشتركة.
كلاهما ذهب إلى ميادين القتال الأول مراسلا حربيا لصحيفة «الأخبار» والثانى شاعرا يبحث فى وجوه البشر على شط القناة عن وجه مصر نفسها.
فى تجليات «الغيطانى» كل ما يحبه فيه شىء من أبيه.
‫«‬رأيت نفسى فى مركب بلا شراع، تطلعت إلى موج البحر، فجأة رأيت شخصا عن بعد، يمشى على وجه الماء، لمحت طريقة خطو أبى، تكلم فأصغيت إلى صوت صاحبى الذى استشهد يوم الجمعة، التاسع عشر من أكتوبر، التى قيل إنها آخر الحروب».
الذى تجلى أمامه الشهيد «إبراهيم الرفاعى».
فى مواطن كثيرة يعود إليه كأسطورة قتال نسيت عندما تبدلت الدنيا وتغيرت السياسات.
تجربة الحرب عنده هى ذاتها تجربة الحياة والأشياء التى تستحق الموت من أجلها.
فى كتابه «النبى» قال «جبران خليل جبران»: «المحبة لا تعرف قدرها إلا ساعة الفراق».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved