الاصطفاف الوطنى فى الإعلام المصرى

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الأحد 24 ديسمبر 2017 - 8:45 م بتوقيت القاهرة

يمثل الإعلام المصرى أزمة كبيرة للدولة فى مصر منذ يونيو 2014. الدولة تدعوه للمساهمة فى تحقيق الاصطفاف الوطنى، واتبعت لبلوغ هذه الغاية أساليب عديدة تراوحت ما بين تعيين من ترضى عنهم رؤساء للصحف القومية، إلى تشكيل مجالس لجميع أدوات الإعلام يسودها أصحاب الحظوة لدى أجهزة الدولة لرسم القواعد التى ينبغى أن تتبعها الصحافة والتليفزيون والإذاعة، ثم امتدت جهود الدولة بتشجيع نقل ملكية شبكات التليفزيون لرجال أعمال من المجاهرين بتأييدهم للرئيس السيسى، ثم أقامت هى بدورها شبكة تليفزيونية أنفقت عليها أموالا ضخمة، وصاحب هذه الجهود ضغوط أدت إلى انسحاب كتاب وإعلاميين كثيرين ممن عرفوا بآرائهم المستقلة من الصحافة والتليفزيون، والاستعانة فى البرامج الحوارية بضباط سابقين فى القوات المسلحة والشرطة «كخبراء استراتيجيين». ومع ذلك يبدو أن كل هذه الجهود لم تنجح فى تحقيق «الاصطفاف الوطنى» المطلوب، ولذلك بادرت أخيرا بعض مؤسسات الدولة بالدخول مرة أخرى فى مجال الإعلام ليس بإنشاء شبكة تليفزيونية جديدة، ولكن بالاستحواذ على شبكة قائمة يديرها واحد من رجال الأعمال المرضى عنهم، وقيل إن تلك خطوة أولى يعقبها الاستحواذ على شبكات إعلامية وصحف أخرى، لأنه كما قال متحدث باسم هذه المؤسسة إن الدولة لا تقبل فى «المرحلة الحالية» أن تترك مجال الإعلام للقطاع الخاص.
فما هى أسباب عدم رضاء مؤسسات الدولة عن الأداء الإعلامي؟ وما هى الخيارات المتاحة أمامها حتى يكون لها الإعلام الذى ترضى عنه، وكيف يمكن لهذا الإعلام أن تكون له فاعليته؟
طبعا ليس أمام الكاتب سوى التخمين لأن المتحدثين باسم مؤسسات الدولة التى تنشط وراء أدوات الإعلام لا يصرحون بأسباب عدم رضائهم عن الأداء الإعلامى، وسوف يلجأ إلى استعراض الأساليب التى تلجأ إليها دول العالم فى تنظيم الإعلام ليرى من بينها ما يتفق مع الحالة المصرية، أو أسباب اختلاف هذه الحالة عن تلك الأساليب.

• التجارب الدولية والمصرية فى تنظيم الإعلام:

عرفت دول العالم أربعة أنماط رئيسية فى إدارة جميع أدوات الإعلام، وعكست الحالة المصرية فى فترات متتابعة هذه الأنماط الأربعة، ولكن يبدو أن الأوضاع فيها تتجه إلى نمط غير مسبوق يخرج عن هذه الأنماط جميعها. فهناك أولا نمط الخدمة العامة وكان ينطبق أساسا على أجهزة الإذاعة والتليفزيون فى الدول المتقدمة. وفى هذا النمط تحدد الدولة ومن خلال مؤسسات مستقلة نسبيا عنها أحيانا مضمون ما تطرحه هذه الأدوات، وتتحكم فى السوق الإعلامية، فإما تقصر ملكية هذين الجهازين على مؤسسات عامة، أو يبقى لها وجودها إلى جانب مؤسسات خاصة، ولكنها تحرص على أن يكون كل من الإذاعة والتليفزيون أداتين لتعميق قيم المواطنة والثقافة الجادة والترويح المنضبط، وإلى جانب هذا النمط هناك نمط آخر يترك ملكية أدوات الإعلام ومضمون رسائلها لقوى السوق وللمنافسة بين الشبكات الإعلامية للحصول على أكبر قدر من الربح. وكان هذا هو النمط السائد فى تنظيم الصحافة ثم امتد أيضا فى الدول الموصوفة بالديمقراطية إلى كل من الإذاعة والتليفزيون مع احتفاظ الدولة خصوصا فى أوروبا بإذاعات وقنوات تليفزيونية عامة تعمل على أساس مبدأ الخدمة العامة. أما النظم غير الديمقراطية فعرفت نمطين آخرين، أولهما الإعلام العقائدى الذى يسعى لنشر العقيدة السياسية أو إيديولوجية الدولة من خلال مضمون ما يقدمه سواء فى النشرات الإخبارية أو الأعمال الدرامية أو البرامج الحوارية، ولا يخرج عن مضمون هذه العقيدة. وهذا هو النمط الذى عرفته النظم الشيوعية ويرتبط باحتكار الدولة لجميع أدوات الإعلام. وأخيرا هناك النمط السلطوى، والذى يترك مجالا أوسع للحرية فيما يتعلق بالمضمون وبالملكية ولكن بشرط عدم المساس بأشخاص الحكام ولا بسياساتهم، وعدم إتاحة الفرصة لقوى المعارضة أو حتى لأفكار المعارضة بالنفاذ إلى عيون المواطنين أو آذانهم.
***
وقد عرفت مصر هذه الأنماط الأربعة. الإذاعة المصرية منذ نشأتها كانت تدار باعتبارها خدمة عامة تقدمها الدولة للمواطنين تسهم فى إعلامهم بما يجرى فى مصر والعالم، وترتقى بوعيهم من خلال أحاديث كان يلقيها كبار المثقفين مثل رائد التنوير المرحوم الدكتور طه حسين، وترفع من حسهم الفنى والأخلاقى من خلال مسلسلاتها والتى كانت تسهم فى تشكيل وعى جماعى بالانتماء إلى ثقافة مشتركة نتيجة متابعة هذه المسلسلات، وانتقل هذا الدور للتليفزيون خلال العقود الأربعة الأولى لنشأته، وإن كانت وظيفة الخدمة العامة لهذين الجهازين قد تلونت بمسحة عقائدية خلال الفترة الناصرية فى الخمسينيات والستينيات بالتأكيد على قيم التضامن العربى والملكية الجماعية والتخطيط تطبيقا لتوجه النظام السياسى فى مصر نحو القومية العربية والاشتراكية. واحتكرت الدولة خلال هاتين المرحلتين ملكية هذين الجهازين، بينما تركت الصحافة تحكمها اعتبارات التنافس فى السوق، وهو الذى دعا عبدالناصر لـتأميمها فى سنة 1960، وشكا أنها كانت تخصص صفحات واسعة لمتابعة فضيحة تورط فيها بعض أثرياء مصر فى الخارج. وبعد رحيل عبدالناصر حل النمط السلطوى محل النمط العقائدى فى إدارة الإعلام فى مصر. طبعا كان لكل من الرئيسين السادات ومبارك توجهات مخالفة لتوجهات جمال عبدالناصر سواء فى التنظيم الاقتصادى والسياسى للمجتمع، أو فى العلاقات العربية أو الدولية عموما، ولكن لم يلتزم أى منهما ببناء فكرى متكامل له انعكاساته فى مجال الآداب والفنون والتعليم، ولذلك يمكن القول إن الإعلام المصرى فى ظل كل منهما تمتع بدرجة أعلى من الاستقلال عن التوجهات الحكومية، وعزز من هذه الاستقلالية ظهور الصحافة الحزبية مع الانتقال إلى ما عرف بالتجربة الحزبية المقيدة. وأخيرا اقترن إعلام الدولة بالإعلام الخاص فى كل من الصحافة والإذاعة والتليفزيون فى آخر عهد مبارك، فانتقلت مصر إلى نمط قواعد السوق عبر كل هذه الأجهزة التى صار يحكمها السعى لتحقيق الربح من خلال اجتذاب القراء والمشاهدين والسامعين، وهو ما يفتح الباب كذلك أمام تدفق الإعلانات بما تدره على هذه الأجهزة من أموال ضخمة. ولم تشهد الفترة التى تلت ثورة يناير ابتعادا عن هذا النمط الذى يجمع بين الخدمة العامة وقواعد السوق الذى ساد فى أواخر عهد مبارك، لا فى ظل المجلس الأعلى للقوات المسلحة ولا فى سنة حكم الإخوان المسلمين، وإن كان الإعلام قد تمتع خلالها عموما بدرجة أعلى من الحرية بالمقارنة بأى فترة سابقة.

• الضيق بالمشهد الإعلامى بعد 30 يونيو 2013:

لم يخف الرئيس عبدالفتاح السيسى عدم رضاه عن المشهد الإعلامى فى مصر بعد 30 يونيو2013، وذكر أن عبدالناصر تمتع بإعلام مساند لسياساته، وشدد على ضرورة أن يسهم الإعلام فى تحقيق الاصطفاف الوطنى. هو لا يرضى بكل تأكيد أن يكون نمط السوق هو الذى يحكم الإعلام، فنمط السوق يقترن بدرجة عالية من الحرية فى الملكية وفى اختيار المضمون، وما قد يعجب المواطنين من برامج أو شخصيات ثقافية أو دينية قد لا يكون على هوى الدولة. برنامج باسم يوسف مثلا كان ناجحا جدا بمعايير السوق، ولكنه لم يكن مقبولا من جانب بعض محبى الرئيس ذوى النفوذ. وقد يرى الرئيس فيما يقدمه «باسم» خروجا على اعتبارات الاحترام لرموز الدولة. والنمط العقائدى ليس مناسبا لحكم الرئيس السيسى لأن الرئيس لم يطرح إطارا فكريا واسعا لسياساته يشبه ما كان عبدالناصر قد عبر عنه فى ميثاق العمل الوطنى فى سنة 1962، ونمط الخدمة العامة أوسع بكثير من التركيز على محاربة الإرهاب والتعريف والإشادة بالمشروعات القومية الكبرى، فهو يقتضى توسعا فى مصادر المعلومات، وتنوعا فى الأفكار المطروحة، وفتح الباب أمام الاجتهادات الفكرية والفنية. ومع أن النمط السلطوى هو الذى ساد فى تنظيم الإعلام بعد 30 يونيو، إلا أنه انتهى إلى وضع لا يرضى عنه الرئيس والمحيطون به، ومن ثم لم تجد مؤسسات الدولة مناصا إلا أن تتولى هى الأمر، وتسعى ليس فقط لتوجيه جميع أدوات الإعلام بالوسائل غير المباشرة التى يتيحها لها وجودها المؤثر على قمة أجهزة الدولة، ولكن بأن تتحول هى نفسها إلى مالك لأدوات الإعلام، ترجمة لمفهوم الأمن الإعلامى، والذى لا تثق هذه المؤسسات أنه يمكن أن يتحقق من خلال ملكية آخرين للإعلام، حتى ولو كانوا من رجال الأعمال المساندين.
المعضلة الكبرى التى قد لا يدركها من اتخذوا القرار بالاستحواذ على شبكات إعلامية هى أن هناك إعلاما آخر لا يمكن أن تسيطر عليه الدولة وهو وسائل الاتصال الاجتماعى والتى شكلت تحديا لأقوى دولة فى العالم، وأن الإعلام المؤثر هو الإعلام ذو المصداقية، وهى المصداقية التى لا يكتسبها إلا بالاستقلال النسبى عن الدولة. ولذلك قد لا يؤدى المزيد من الاستحواذ إلا إلى المزيد من انصراف المواطنين عن الإعلام المصرى، وهو ما يعمق من أزمته الراهنة.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved