نبيل العربى.. إلى متى يتحمّل؟

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 25 أبريل 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

مرت جامعة الدول العربية بأزمات عديدة على امتداد سنواتها الثمانى والستين. عشت معها بعض هذه الأزمات ولظروف شتى فرضت اقترابى منها. اقتربت منها طالبا ودارسا بتشجيع من بطرس بطرس غالى أستاذ القانون الدولى الذى تخصص فى تدريسها والكتابة عنها. واقتربت منها متابعا ومحللا من خلال العمل الدبلوماسى.

 

عاصرت أزمتها الحادة مع حكومة فى مصر أرادت أن تتجاوز التكامل الذى هو عقيدة الجامعة إلى الوحدة التى هى عقيدة القومية العربية، فتصادمتا. عشت أيضا أزمتها الحادة مع صعود «الإسلام الرسمى» على حساب العروبة كأداة تجميع وشرعية تكتل، عندما قررت دول إسلامية إقامة تنظيم «إقليمى» جديد موازٍ للجامعة العربية ليكون أقرب إلى رغبات الغرب عامة والولايات المتحدة خاصة، وليدعم التيارات المحافظة والدينية فى مواجهتها مع التيارات الاشتراكية والتقدمية.

 

اقتربت من الجامعة أكثر عندما انتقلت للعمل فيها فى وقت كانت الأمة العربية، بحكامها وجماهيرها، مستعدة لتحقيق درجة عالية من التكامل، مستندة إلى ما تجدد لديها من أمل فى المستقبل بعد حرب 1973، وما توافر لها من احتياطات نقدية بعد ارتفاع أسعار النفط. عامان أو ثلاثة لا أكثر، وبعدها تحولت الأحلام إلى كابوس ثقيل عندما قررت مصر فى ظل الرئيس السادات التنكر للجامعة العربية، إلى حد أن الرئيس السادات رفض التجديد لمحمود رياض الأمين العام المصرى فى مؤتمر قمة عقد بالقاهرة، ولم يطرح مرشحا بديلا وكأنه أراد أن يبلغ العرب أنه لا يبالى بهم ولا يريد جامعتهم. فهمنا وقتها أن الرئيس المصرى يفكر فى «شيء» كبير.. شيء يغير وجه مصر ويرسم لها مستقبلا يخرج بها من إطارها العربى قفزا على الموروث السياسى والقومى وتعاليا على الإقليم، باستثناء إسرائيل.

 

    عاصرت بدايات هذه الأزمة من خلال حضورى جلسات القمة، وعشت مراحل تطورها حتى اللحظة التى قررت فيها دول عربية طامعة فى مواقع القيادة العربية عزل مصر. كان الأمر واضحا أمامنا. لن يعود العمل العربى إلى وضعه السابق ولم يكن العنصر الحاسم فى نظرنا هو عزل مصر أو انعزالها بقدر ما كان انفراط عقد قيادة المنظومة العربية. لا قيادة منفردة كانت ممكنة ولا قيادة تعتمد على توازن التحالفات كانت محتملة. عندئذ بات واضحا وجليا ضرورة أن يتخلى الأمين العام عن مهمته، وإلا أضاف باستمرار وجوده تعقيدا إلى تعقيدات عديدة وأساء إلى تاريخه مكانته وأوضاعه الشخصية.

 

●●●

 

استمر دورى متابعا، أحيانا لإشباع حاجة إلى معلومات تفيد فى تحليل أوضاع العرب وخلافاتهم وعلاقات دولهم بالعالم، وأحيانا استجابة لطلب رأى فى قضية أو أخرى من قضايا الإصلاح والتطوير، وآخرها طلب المشاركة فى لجنة الإبراهيمى التى شكلها الأمين العام لتقدم اقتراحات تفيد فى تحقيق حلم التطور، الحلم الذى راود كل أمين عام جاء بعد عبدالرحمن عزام، الأمين العام الأول للجامعة.

 

   هناك بدون شك اختلافات جوهرية عديدة بين هذه المرحلة ومراحل سابقة فى حياة الجامعة العربية، أهمها وربما أخطرها الأزمة الراهنة الناتجة عن النقص الحاد فى مشروعية الحكم فى عدد كبير من الدول الأعضاء. تطور لم يحدث من قبل. صحيح إن الجامعة نشأت ولم تكن أغلب الدول السبع المؤسسة قد حصلت على استقلالها الكامل، إلا أنه لم يوجد فى المنطقة أو خارجها من يشكك فى «شرعية» الأنظمة الحاكمة وقتها، فأكثرها كان يقود معركة مع المستعمر الأجنبى ليحصل على كامل الاستقلال.

 

●●●

 

شاهدت صور جلسات القمة العربية الأخيرة وتابعت أعمالها واطلعت على وثائقها واستمعت إلى حكاياتها الكبيرة والصغيرة. كان واضحا أن هناك أربعة أنواع من الدول: نوع تنقصه الشرعية فى بلاده لأسباب نعرفها وأهمها الأوضاع الثورية السائدة وانقسامات النخب الحاكمة وصدامات العقائد والغياب المؤقت وربما المفاجئ لروح الأمة. النوع الثانى تفضح نقص شرعيته الأخطار الخارجية والداخلية التى تهدد وجوده كيانا موحدا. أسر لى أحد الحاضرين بأنه سمع مسئولا عربيا كبيرا يقول لزميل له إنه صار يشك فى أن يرى فى دورة قادمة اللوحات نفسها التى تحمل أسماء الدول العربية المشاركة فى القمة. النوع الثالث نراه ثم لا نراه. أما أن القمة التى تعقد بمن حضروا قررت عزله أو حرمانه من الحضور، أو أنها سمحت له بالمشاركة وفجأة سحبت الكرسى من تحت ممثله الشرعى وأهدته لممثل اختارته بنفسها. النوع الرابع هو الدول التى لم تتمكن من المشاركة على المستوى اللائق فبعثت بمن يتساوى وجوده بعدم وجوده، معلنا عدم اكتراثها.

 

●●●

 

لم يغب عن بالى مشهد الأمين العام جالسا على مقعده فى المنصة يفكر فى صمت وبغضب مكبوت فيما درسه فى القانون الدولى، وما مارسه فى المنظمات الدولية، محاولا فهم ما يدبرون لهذه الأمة فى غيابه ومتسائلا عن حقيقة نواياهم وحوافز حضور بعضهم ومتشككا فى جدوى الكثير مما سوف يصدرون من قرارات يفترض أنها تعبر عن مصالح أمة، أغلب شعوبها تشكك فى شرعية قيادات تنطق باسمها وتصدر قرارات أكثرها لم يطرح على الرأى العام العربى.

 

●●●

 

أعرف معنى وأهمية أن يعتمد الأمين العام على دعم الدولة التى ينتمى إلى جنسيتها، الدولة التى رشحته للمنصب. لم يعد سرا التوتر الذى طرأ على علاقة حكومة الضباط الأحرار فى بداية الثورة المصرية بالأمين العام الأول للجامعة، ولم يكن أمام الأمين العام إلا الاستقالة عندما تأكد له أن هذا التوتر مع حكومته سيضعفه أمام الدول الأخرى، وبخاصة أمام حكومة نورى السعيد فى العراق وعبدالله فى الأردن، التوتر الذى تكرر وإن لأسباب أخرى عندما قرر الرئيس السادات إهمال الجامعة العربية وتجاهلها الأمر الذى جعل مهمة محمود رياض خلال ولايته الثانية شاقة للغاية وانتهت باستقالته.

 

لا توجد مؤشرات كافية على أن حكومة مصر الراهنة تتجاهل الجامعة العربية أو تهملها، ولكن توجد مؤشرات كافية على أن هذه الحكومة لم تقم بعد بصياغة أهداف مصر فى العمل الدولى باستثناء هدف الاقتراض معزولا عن مصادر قوة صلبة وناعمة عديدة ترفض السلطة المصرية، أو لعلها عاجزة عن تشغيلها. نسمع من القائمين على الأجهزة الإدارية العاملة فى قطاع السياسة الخارجية والدفاعية شكاوى وتحفظات على مظاهر اضطراب شديد فى عملية صنع السياسة الأمر الذى جعل الدولة المصرية تبدو ضعيفة ومنهكة أو، وهو الأسوأ، مغلوبة على أمرها، وهو ما يزيد من تعقيدات الأداء السياسى المصرى فى المحافل الدولية ومنها الجامعة العربية.

 

   لاشك عندى فى أن هذه الحالة تجعل مهمة الأمانة العامة للجامعة شاقة، فهى تقيد حرية الأمين العام فى الحركة، وتضعف قدرته على ممارسة النفوذ التقليدى الذى يتمتع به، بين القادة العرب، من يحتل هذا المنصب، ويضيع عليه وعلى الجامعة فرصة الاستفادة من خبرته وتجاربه فى القانون والتنظيم الدولى. أتصور أن الأمين العام فى حاجة ماسة إلى عودة مصر بعد سنوات من الإهمال واللا فاعلية لتمارس دورها «التجميعى» وهو الدور الذى فشلت فى أدائه حتى الآن أى دولة عربية أخرى، سواء كانت طامحة للقيادة بالأيديولوجية أو بالعنف أو بالمنح والهدايا والقروض. الأمين العام وحده لا يستطيع، ولن يفلح إذا حاول. وقد حاول.

 

●●●

 

    أعرف أنه إلى جانب هذه العقبات والصعوبات، مازالت الحالة الثورية، أو الفوضوية، السائدة فى معظم أنحاء العالم العربى، تفرض على النخب المثقفة والمسيسة التقوقع على الذات وعلى مشكلات الوطن الصغير، الوضع الذى يحرم الجامعة العربية من مشورة وخبرات طاقة هائلة أفادتها فى عهود سابقة.

 

   من ناحية أخرى، ما زالت المسألة السورية تستنزف طاقة العرب السياسية والمعنوية. هنا يجب أن نعترف أن المحاولات الأولى التى قامت بها الجامعة العربية لوقف النزيف السورى كان يمكن ان تحقق بعض النجاح لو لم تتدخل جهات عربية ضد مهمة المراقبين العرب الذين عملوا تحت إمرة الأمانة العامة للجامعة. هذا التدخل المنفرد من جانب دول أعضاء فى الجامعة فتح الباب أمام شتى أنواع التدخل الإقليمى والعربى، وحرم الأمانة العامة من فرصة متابعة الجهد مع كافة الأطراف السورية. هكذا حلت روح الانتقام من نظام الأسد محل روح العمل الإيجابى الساعى إلى إنهاء المذبحة وانقاذ أرواح السوريين ومنع التدخل الدولى. أعرف ان هذا التدخل المباشر من جانب دول عربية كان سببا من أسباب رفض كوفى عنان الاستمرار فى مهمته، وكان أيضا وراء رغبة لم يعلنها الأخضر الإبراهيمى فى حينها، وهى أن يعمل بتفويض دولى فقط، وليس بتفويض دولى عربى مشترك، ولعله أيضا السبب الذى يمكن ان يدفع الأمين العام فى حال قرر الأخضر الإبراهيمى تنفيذ تهديده بالاستقالة، إلى ان يطلب من الأمين العام للأمم المتحدة تعيين مبعوث دولى جديد يختاره من بين رؤساء الدول السابقين، المشهود لهم بالسمعة الطيبة والمكانة الدولية المرموقة.

 

●●●

 

 ما زال الأمين العام، رغم كل المشكلات والأزمات التى تعيشها الجامعة العربية، يأمل فى أن تستطيع الجامعة المساهمة فى اقناع الأمريكيين والروس والصينيين بضرورة التوصل إلى حد أدنى من التفاهم ليس فقط لوقف كارثة سوريا ولكن أيضا للاستعداد لإعادة تعميرها باستخدام الفوائض النقدية العربية، يأمل أيضا فى أن يرى العراق، وقد استقرت أحواله، فالخشية الكبرى فى أوساط الجامعة العربية هى من احتمالات انفجار جديد فى العراق، ومن احتمالات استمرار تدهور أوضاع الثقافة العربية. لذلك لا أستبعد أن يقرر الأمين العام فى أقرب وقت ممكن اختيار وزير سابق للخارجية المصرية أو مسئول عربى كبير ليتولى وبسرعة مهمة توثيق الروابط بين الجامعة العربية وبقية العرب بالعراق المهدد أكثر من أى وقت مضى بالانفراط، ويختار شخصية مرموقة فى الوسط الثقافى والدبلوماسى له علاقات وثيقة بنخبة الثقافة العربية لوضع مشروع يفيد فى رسم مستقبل جديد للثقافة العربية، يتفادى مخاطر الانفراطات المذهبية والعنصرية المتفاقمة وتحديات ثقافة عالمية كاسحة.

 

●●●

 

كتبت مرارا عن الجامعة العربية كمرآة للواقع العربى ومنبر للأمة العربية. أتمسك بما كتبت وأضيف إليه أننى غير راض إطلاقا عن الصورة التى تعكسها المرآة، وعن الخطابات التى نسمعها من فوق منابرها. وأظن أن الأمين العام لن يتحمل طويلا الاستمرار فى رؤية هذه الصور المشوهة لحال الأمة ومستقبلها أو الاستماع إلى هذه الخطابات الرديئة من بعض قادتها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved