هو وحفيدته

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 25 أبريل 2017 - 9:05 م بتوقيت القاهرة

أقاموا احتفالا لا تنقصه « التورتة». خمنت يوم دعوتى أنهم لن يجدوا التورتة التى يتسع سقفها لشموع عددها بعدد سنوات عمر المحتفى به. تصرفوا، وكلهم من الشباب، بذكاء. جاءوا بشمعة قصيرة فتكاد لا ترى وقصيرة اللهب فأضعف نفخة من على البعد تطفئها. غرسوها برفق وانطلقوا بالأنشودة الخالدة يغنونها بالانجليزية ولسبب غير مفهوم يكررون الشدو باللحن نفسه ولكن بمفردات عربية. انتهى هذا الجزء من الاحتفال، كما ينتهى دائما، بنفخة أنفاس بعدد الحاضرين فى اتجاه شعلة الشمعة النحيفة والضعيفة. كانوا على ما يبدو غير واثقين من قدرة المحتفى به على جمع هواء فى رئتيه يكفى لإطفاء الشمعة من أول زفرة.
***
أينما التأم شمل كبير فى العمر وشباب فى مقتبله انطلق حوار ناطق حينا وساكت معظم الأحيان. يزعمون وبكل الثقة فى النفس أنهم يعرفون كل شىء. هم لا يحتاجون مساعدة من كبير العمر أولا لأنه ضعيف الجسد وثانيا لأنه لا يعرف ما يكفى عن أنواع مشاكلهم العصرية وثالثا لأنه بحكم التجارب القاسية والجسد الواهى يفضل ألا يجاهر أو يقاوم وفى حكم المؤكد لا يقاتل، ورابعا لأنه ابتعد بعدد السنين عن ساحات الحب وانفعالات العواطف المتقدة، وخامسا لأنه يقيس الجمال والأناقة والفوز والسعادة بمعايير فقدت صلاحيتها.
تعودوا رؤيته صامتا فازداد الظن بأنه لا يعرف ماذا يقول أو بماذا يعلق فهو يعيش خارج عصره أو فى امتداد عصر انتهى. يتحدثون بلغة يعتقدون أنه لا يفهمها وهو فى الغالب وفى سره يحتقرها وهم بكيد تلقائيتهم ممعنون فى استخدامها.
***

يجلس الكبير مستمعا إلى ما يقوله الشبان ساكنا ولكن متأملا. تنطبع فى مخيلته صورته مع هذا الشاب، ابنا كان أم حفيدا واقفا إلى جانبه على رصيف، يخططان لعبور طريق مزدحم بحركة المرور. يعرف أنه سيكون البادئ بالامساك بيد الشاب حماية له من جنون السائقين. يظن الشاب، مثل كل الشباب، أن كبير العمر يحمى نفسه. لا يعرفون أن اليد التى امتدت إليهم وهم أطفال صغار ما تزال ممدودة إليهم وقد أصبحوا شبانا يافعين. كم هم طيبون، يعتقدون أن كبير العمر لا يقرأ ما يفكرون ويسمع ما يدبرون؟. هكذا يعلق صامتا وهو فى غمرة التأمل: صحيح أننى غائب معظم الوقت عن ملاعبهم ومسارح أحداثهم ولا أرى بالعين المجردة تفاصيل أفعالهم، ولكنى أتمتع بموهبة تخص الكبار فقط، الكبار يعرفون كيف يفكر الصغار لأنهم كانوا صغارا بينما الصغار لن يعرفوا كيف يفكر الكبار حتى يكبروا هم أنفسهم.
ألا ترون أيها الكبار أنكم بفضل عمركم المديد تتميزون عن الشباب بل وكل الصغار؟. أنتم عشتم كل أعمارهم وهم لم يعيشوا بعد إلا القليل من أعماركم. لا شىء يدبرونه الآن فى السر أو العلن لم تدبروه قبل عشرات السنين وتفعلوه وتتحملوا عواقبه. أكاد أكون متأكدا أن لا شىء يملأ خاطر شاب لم يسبق له أن مر بشكل ما على خاطر كبير فى العمر فى نفس عائلته أو دائرة معارفه. سمعت يوما كبيرا عاقلا ينصح كبيرا آخر أتاه يشتكى سوء معاملة الشباب له. نصحه بأن يجعل خبرته فى الحياة محل طلب أكثر من أن يجعلها محل عرض دائم أو متكرر. قال له دع الشباب فى عائلتك ومواقع عملك يسألونك الرأى والمشورة. لا تفرضهما ولا تكرر عرضهما. ثق أنهم يفضلونك صديقا متجاوبا ومتفهما عن راعٍ يرتدى ثياب الوقار ويرفل فى هيلمان الحكمة ولا ينطق إلا بالرأى الواحد القاطع.
***
جاءت وعلى وجهها ابتسامة إشراق ولهفة. قالت جئت إليك اليوم يا جدى بطلب أرجو أن تستجيب له. سألها بدهشة ولهجة عتاب، وهل رفضت لك طلبا من قبل؟. قالت حقا يا جدى فأنت لم ترد لى رغبة أو حاجة ولكن طلبى هذه المرة مختلف. طلبى لا يقتصر علينا نحن الاثنين، بل يتجاوزنا إلى آخرين عديدين أعرف أنك تخفيهم وراء ستائر سميكة. نسمع عنك من كبار العمر فى عائلات أصحابنا ما لم تبح أنت لنا به. جدى من أنت؟. أخفيت عنا نحن شباب عائلتك حكايات من ماضٍ طويل. جدى تعالى نعقد صفقة. أنت تحكى لى عن ماضٍ لم أعشه وأنا أحكى لك عن مستقبل أنتمى إليه. قل لى هل فاتنا الكثير بغيابنا عن هذا الماضى؟. أخبرنى عن بعض هذا الماضى الذى طالما تمنيت أنت أن أعيشه أنا، يمتحننى وأمتحنه. هل أيامنا الراهنة التى نتشارك معا العيش فيها هى المستقبل الذى كنت تحلم به، أم تراها كابوسا ثقيلا سوف ينزاح عما قريب؟. تقول لنا دائما إن الماضى لا يعود ولكن معرفته تفيد. هات ما عندك يا جدى عن أمجاد الماضى ودروسه، حدثنى عما فعله بكم وما فعلتموه، انت وأبناء جيلك والماضى كلكم معا، بنا وببلدنا، بوطنك الذى هو، حتى الآن على الأقل، وطنى.
نكس جدها رأسه ليخفى دمعة فرت من عينه فسالت على خده. خاف أن تخدش دمعته سعادة حفيدته.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved