القاهرة: مدينتى وثورتنا (٢٢)

أهداف سويف
أهداف سويف

آخر تحديث: الخميس 25 يونيو 2015 - 10:40 ص بتوقيت القاهرة

الموجة الأولى

الثلاثاء ٨ فبراير

يقولون إن الكثير أصابهم البرد، فالناس نائمة فى العراء منذ إثنى عشر يوما. كل من يأتى إلى الميدان يحضر معه فيتامين سى. شركة سياحة فتحت مكتبها ليستعمل كعيادة. الميدان يطلب أغطية من المشمع. مجموعة تذهب لتتفقد مبنى الداخلية فتجد أن المدرعات ما زالت تحميه. الشرطة أغلقت بوابات المبنى ونراهم ــ جمهرة خلف النوافذ يحدقون فى الشارع.
التحرير يموج وما زالت الناس تأتى. الجو فيه ترقب سعيد، فهناك أخبار بمسيرة من عشرة آلاف عامل فى طريقها إلينا. ليلى تهاتفنى: مسيرة من نحو خمسة آلاف أكاديمى آتية عن طريق شارع قصر العينى. أزال الجيش الحواجز عند شارع مجلس الشعب وترك الناس يمرون منه ثم يدخلون إلى التحرير عن طريق شارع محمد محمود. أبدأ فى عبور الميدان لألتقيهم. ابتعت حزمة نعناع من طفل فى الطريق فأتيت بها وبكيس من البسكويت إلى الميدان. بأى ذوقٍ ملوكيٍ يتقبل الناس البسكويتة؟ بأى رقيٍ وعزة يرفض الجوعان الدعوة؟ تلك الانحناءة، واليد على الصدر، كلنا نبلاء هنا.
أمُر خلال الزحام، حزمة النعناع فى يدى ولا أحد يستغرب، يبتسمون ويمدون أيديهم ليقطفوا ورقة أو يسحبوا عودا يرفعوه إلى أنوفهم. الناس تتحرك بين منصات مختلفة وخطباء مختلفين. الناس تقف لتلتقط الصور إلى جانب الدبابات ثم تُقَبِل الجنود. حين أصل إلى الجانب الآخر من الميدان أجد أختى وخالتى تجلسان على الرصيف على ناصية الجامعة الأمريكية فى محمد محمود. أسرة سلفية تجلس إلى جانبنا فنتبادل المأكولات. ليلى تقول إنها ستذهب لتتفقد شارع مجلس الوزراء لأننا «سبنا نحو ألفين نفر هناك عشان يحتلوه».
نجلس أنا ولولى جنبا إلى جنب على الرصيف مواجهين مبنى المجمع. لولى مرت بعارضٍ طبى منذ سنواتٍ قليلة ولذا فهى تجُر ساقها اليسرى إلى حدٍ ما. وهى ــ كنِساء أسرتى ــ شجاعة مقدامة ذات همة. فقط جسمها بدأ يعرقلها. أمى، فى محاولة منع الحرب على العراق، سارت فى لندن من تشارنج كروس إلى هايد بارك، تارة فى كرسيها المتحرك وتارة على قدميها. وكنت أرى دموع الألم فى عينى خالتى طوفى وهى تصر على صعود دورٍ آخر من السلالم المتآكلة لتزور سيدة أخرى فى مشروع الأسر المنتجة. لولى وأنا نعطى أجسادنا راحة قصيرة على الرصيف غير المتساوى. نفكر فى طوفى، فمبنى المجمع هذا عبر الطريق قبالتنا، يحدثنا عنها.
ذلك القوس الكبير كمشروع حُضن، تخطو إلى داخله فينقبض الضوء ويرتفع الصوت وتدخل كونا مغايرا: المدخل الضخم يفتح فوق رأسك إلى نفقٍ رأسيٍ جبار يصعد ١١ دورا تكاد ترى الأصوات فيه كالدوامة، الهواء نفسه مثقل بالآلاف المؤلفة من الاستمارات والعرضحالات والقصص والمكاتب والكراسى ودبابيس الورق والشكاوى وورق الكربون وشانونات الأرشيف ودواليبه. جموع الناس فى حالة هرولةٍ دائمة، يعبرون المدخل ثم يعيدون عبوره يحاولون الوصول إلى السلم أو الطرقة أو المصعد الذى يطلبونه. أنا، ويدى فى يد طوفى، أنتظر فى طابور المصعد الضيق الذى سيحمل، بقدرة قادر، ثمانية أشخاص زائد أنا التى لن يحسبوها إلى الدور السابع ومكتب خالتى. كل الإدارات الحكومية التى تتعامل وجها لوجه مع الجمهور موجودة فى هذا المبنى، وطوفى تعمل فى الشئون الاجتماعية لكنها فى الأغلب لا تقوم بعملها فى المكتب ولكن فى الخارج، فى شوارع المدينة.
جالسة أنا على الرصيف أمام المبنى أتذكر الجلبة والحركة والنكات والقفشات فى المكاتب المزدحمة؛ الموظفون يتزاحمون للوصول إلى مكاتبهم، ثم يخرج الكل لينتشر فى شوارع القاهرة: ينتشرون فى الشوارع لكى يُحدِثوا أشياء طيبة. نَمُر، أنا وطوفى، فى حوارى أضيق من أن تدخلها السيارات، ندخل البيوت ونزور «الساحات الشعبية»؛ ترقب طوفى الأولاد يلعبون كرة القدم وتنظر فى غرفة الخياطة أو ورشة الخشب وتعجب بشغل الماركترى أو تجلس لتعطى درسا سريعا فى لفق الذيل بنظافة أو تنفيذ غرزة بطانية متساوية. تنظر فى الأوراق فى الإدارة وأحيانا نبقى لنشاهد مسرحية أو عرضا موسيقيا. وكان تتويج العام هو «عرض الساحات الشعبية» حيث يمتلئ استاد القاهرة بالشباب وأسرهم، وكان الرئيس جمال عبدالناصر يحضر هذه العروض وأتذكر عرضا انتهى بفتاة جميلة تلتف بعلم مصر وترفع شعلة والكل يغنى حولها. وفى الأغلب كان هذا قبل فبراير ٥٨ لأن العلم الذى التفت فيه كان العلم الأخضر ذو الهلال والنجوم.
تقول أختى إن عبدالناصر هو المثال الأوضح لأن سيناريو الديكتاتور الصالح لا يمكن أن ينجح؛ فلم يكن هناك أنقى من عبدالناصر أو أكثر انحيازا للشعب، لكنه أسس للممارسات والنظم التى أدت فى النهاية إلى نظام حسنى مبارك. يقول عمر «بنت ملفوفة فى علم مصر؟ مش شايفة إن دى صورة فاشية نمطية؟» أعترض: «فاشية إذا كنت فى وضع قوة؛ بالكاد تخلصنا من الحكم الملكى فى ٥٢ ومن الحكم البريطانى فى ٥٤ ثم هاجمتنا بريطانيا وفرنسا وإسرائيل فى ٥٦ ــ ألا تسمح لنا ببنت ملفوفة فى علم؟».

بعد ساعات
تمدد التحرير إلى شارع مجلس الوزراء. مدخل الشارع عند قصر العينى كله بيريهات حمراء: الشرطة العسكرية تحاول إغلاق المدخل مرة أخرى. الناس تأتى إلى الشارع من ناحية الفلكى لتدعم أساتذة الجامعات الذين بقوا فيه. مجموعة من الرجال تصل إلى الجنود عند قصر العينى فتجلس عند أقدامهم. أحدهم، طويل ضخم وفى نحو الخمسين من العمر يجلس على الأسفلت ثم يلقى بنظره إلى الجنود الواقفين فوقه ويقول بلطف: «آدى قعدة، ومين عارف يمكن أكون جلست على قبرى».
البطانيات وأكياس الخبز والتمر وزجاجات المياه تتكدس إلى جانب سور البرلمان. نرقب أشخاصا يتحركون خلف نوافذ مبنى مجلس الوزراء ومبنى وزارة الصحة. يبدأ الشباب فى رش الجرافيتى على جدار مجلس الوزراء. يخرج منه رجل يقول لهم إنه سيضطر إلى السهر طول الليل لتنظيف الجرافيتى. يعتذر له الشباب ويتوقفون عن الرش.
لولى وأنا نجلس على الجدار المنخفض ونرتكن إلى السور الحديدى بالقرب من ضباط الشرطة العسكرية. بعد ١٧ يوما من الآن، فى ٢٦ فبراير فى هذا الموقع بالضبط، سترى ليلى ومنى هذه الشرطة العسكرية تسحب شابا جريحا مضروبا. سوف تنقذ أختى الشاب من الجنود وتكلف سيارة تتطوع للذهاب به إلى بيته. منى تريد أن تحتفظ بالشاب إلى أن تستطيع هى وأمها أن تعيداه إلى بيته بنفسهما، لكن الرأى الأغلب هو أنه تعبان جدا ومن الأفضل أن يذهب الآن فى سيارة المتطوع. بعد عشر دقائق سيأخذه البوليس الحربى من السيارة وفى هذه المرة لن يمكن إنقاذه. عمرو البحيرى سوف يحاكم بتهمة حمل السلاح وسيحكم عليه بخمس سنين يقضيها فى سجن الوادى الجديد فى الصحراء الغربية.
لكننا، اليوم، نجلس ونرقب الشارع يمتلئ. نسمع هتافات الميدان حين تصل مسيرات العمال يأتون بأخبار خروج لافارج السويس وكايرو تيليكوم أيضا إلى الإضراب. والآن كل الأصوات المختلفة والهتافات والصراخ والموسيقى كلها تضم فى نشيد واحد مع طبول وتصفيق وهتاف الألتراس. ألتراس وايت نايتس وألتراس أهلاوى، الشباب الذين كانوا فى مقدمة المظاهرات فى ٢٥ يناير، الشباب الذين اخترقوا خطوط الشرطة وخطوط الأمن المركزى، وصولهم إلى الميدان احتفال دائما والآن جاءوا ليضعوا ختمهم على احتلال شارع مجلس الشعب. بالطبل والهتاف والأغانى يصلون إلى بوابة مجلس الوزراء فى اللحظة التى تحاول الليموزين السوداء الخروج من البوبابة. لا أحد يحاول إيقاف السيارة لكننا نصحبها بزَفَة. والآن يبدأ النقاش، بعض الشباب يريدون احتلال مبنى مجلس الشعب: «ده مجلس الشعب وإحنا الشعب» لكن الرأى الأقوى يقف ضد اقتحام أى مبنى. يتناقشون فى السير إلى ماسبيرو ــ بما أننا ندرك الآن حجم الأذى الذى يلحقه بنا الإعلام الرسمى ــ لكن مرة أخرى ينتصر الرأى الذى يقول لا اقتحام لأى مبنى ولا دفع أو تحريض على مواجهة مع الجيش.
الآن أعيد النظر إلى مشهدنا، أنظر إلينا، نحن الشعب، بكل تنوعنا، نمشى ونعتصم ونهتف ونفترش الأرض ونأكل فى شارع الدواوين بين برلماننا ومبنى مجلس وزرائنا، لولى وأنا وبضعة آلاف خارج السور. كان أمرا بسيط أن ندخل ونحتل المبنيين. ولم يكن الخوف هو الذى يمنعنا. كيف يخاف هؤلاء الشباب بعد هجومهم على الداخلية ــ حين تدافعوا لمدة ثلاثة أيام مستمرة على قلعة الشر، يواجهون الرصاص والغاز؟ كيف يخافون بعد الأربعاء الدامى حين دافعوا عن الميدان ضد الخيالة والمولوتوف والبلطجية والقناصة؟ أبدا ليس الخوف. أننا، نحن الشعب، ننفذ عن قناعة استراتيجية تقضى باستعمال أقل درجة عنف ممكنة وبالتسبب فى أقل خسائر ممكنة. كانت ثورتنا تحترم القانون، ثورة تحمل فى قلبها الرغبة فى استعادة أجهزة الدولة ــ استعادتها للشعب، وليس تدميرها. ظنت الثورة أنها تعرف عدوها: الداخلية والأمن المركزى والحزب الوطنى الديمقراطى، مبانيهم هى المبانى التى أشعلت فيها الثورة النار. ومع ذلك فحتى جنود الأمن المركزى لم يعتد عليهم أحد لأنهم مجندون، أى مجبرون.
هل كنا سنصل إلى مكان أفضل لو كنا تعاملنا بعنف أكثر؟
حين نغادر الميدان نفُوت بين صفين من الشباب يصفقون ويطبلون ويشجعوننا أن نغنى معهم «هنيجى بكره، ومعانا جيراننا، هنيجى بكره، ومعانا صحابنا».
على كوبرى قصر النيل العربات تبيع الذرة المشوى والمشروبات الساقعة والفول السودانى واللب. وقريبا سيكون هناك غزل البنات ورز باللبن.
فى الطريق إلى البيت أجد الحواجز يقف عليها جنود القوات المسلحة جنبا إلى جنب مع شباب اللجان الشعبية، والجنود يرتدون على أكمامهم شارات اللجان.

بعد صلاة الظهر
الحاج أشرف ينتظر، كما اتفقنا، إلى جوار الجامع القائم على اليمين بعد نفق الهرم مباشرة. كان قد ذكَرَنى، برفق، أن أمور الحياة لا تتوقف حتى وإن كنا نقوم بثورة: «ربنا يقويكم. دى بلادنا دى ممكن تبقى جميلة جدا لو الناس اللى قايمين عليها بيخافوا ربنا»، ثم: «ما بتفكريش تيجى تشوفى الأرض كدة ساعة؟».
الأرض! جنينة صغيرة بالقرب من أهرامات الجيزة، اشترتها أمى من نحو عشرين سنة. أقل من نصف فدان ولكن، وبما أننا فى مصر، «كيميت»، بلاد التربة السمراء السخية، تغدق علينا بالبلح والمانجو والليمون والكنتالوب والخضراوات فى مواسمها. اشترتها أمى من الحاج كمال، مُعَلِم وناظر وصاحب مدارس متقاعد، يحب الجنينة فاستمر يعتنى بها ويتابعها، وأمى تذهب إليها تقريبا كل يوم جمعة بعد الظهر فتجد الحاج كمال يشرف على أمورها فيجلسان فى الفراندة الحجرية يتحادثان فى السياسة. وكان الحاج كمال يحب أن يحكى فى التاريخ ويُطَعِم حكاياه بالنوادر والنكت. وحين توفيت أمى، فى الـ٢٠٠٧، تزامن هذا مع إصابة الحاج كمال بالجلطة. زرناه فى بيته لنتلقى عزاءه فى أمى، وبعد أشهر عدنا مرة أخرى، علاء وليلى وأنا، لنقدم العزاء لأرملته وأسرته. وانتقل واجب العناية بالـ«أرض» إلى أولاد أمى ــ إلينا.
واليوم، الاستراحة الصغيرة بفراندتها الحجرية تحتاج إلى إصلاحات، والحاج أشرف يقوم بهذه الإصلاحات، ولذا نجد أنفسنا، أنا وهو، فى السيارة فى شارع الهرم فى يوم الجمعة هذا بعد صلاة الظهر.
يبدو أننى كبرت؛ أجدنى أعجب مرة أخرى للتحولات: كيف امتدت المبانى واحتلت هذه المساحات الشاسعة من الأراضى إبان المرور السريع لسنين عمري؟ أنظر من النافذة وأنجح فى ألا أقول «تصور! كان هذا وكان وكان..»، لكنه فعلا كان: كان حقولا خضراء على جانبى الطريق، حقول خضراء تطعم العاصمة.
«مارَحَلش»، يقول الحاج أشرف.
«مارَحَلش».
«الناس كانت زعلانة جدا امبارح».
«فعلا».
«طب هو مستنى إيه؟”»
وكان هذا هو السؤال الذى نسأله جميعا.
كنا متأكدين أنه سوف يرحل.
أتى الأربعاء ٩ فبراير ومعه موجة من الإضرابات: فى كفر الشيخ حاصر الآلاف مبنى المحافظة. عمال بتروتريد، والتعاونية، وثلاث شركات بترول أخرى خرجوا منددين بسامح فهمى وزير البترول والثروة المعدنية. أضرب عمال المياه والصرف الصحى فى القاهرة، وأضرب عمال شركات جمع الزبالة. رجل النظام فى نقابة الصحفيين طُرِد من مكتبه، وأصدر شباب صحفيى جريدة الأهرام ملحق «التحرير» المؤيد للثورة. فى كل مكان كان الناس يتلقفون رياح الحرية.
فى الأيام الماضية تشكلت الكثير من اللجان، وتقدمت شخصيات تتحدث باسم واسم واسم.. وترددت اللجان والشخصيات على المجلس الأعلى للقوات المسلحة لتضع أمامه مقترحات بمجالس رئاسية وحكومات انتقالية. وأمس الخميس حملت نشرات الأخبار إعلان المجلس الأعلى للقوات المسلحة أنه فى حالة انعقاد مستمر لمراقبة التطورات ولتخطيط كيفية حماية الأمة ومكتسباتها وطموحاتها، وتباطأت الكاميرا وهى تمر على الجنرالات فى غرفة اجتماعاتهم المكسوة جدرانها بالخشب والمزينة بالأعلام والرايات والزهور، فكان غياب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حسنى مبارك، من الاجتماع رسالة للشعب.
وبعد الظهر ــ أمس الخميس بعد الظهر ــ كان الكل يتجه إلى الميدان. كنا متأكدين: هذا يومُنا، هذا يوم التنحى. ومرَت الساعات.. ثم مرَت الساعات، ساعة جامعة الدول العربية تقول إنها السابعة، ثم الثامنة، فالثامنة والنصف، والميدان ــ بل الميادين كلها ــ تحبس أنفاسها، تنتظر، على أهبة الاحتفال.
أقف أمام منصة «فنانين الثورة». البرد قارس، قارس حتى وحولى مئات الآلاف. مثلهم لا أقدر أن أقف ساكنة، أتقافز قليلا، أُلَوِح، أرفع يدى فى شارات نصر. على المسرح فرقة «وسط البلد» تغنى. ليس هناك مجال للرقص فالزحام لا يُمَكِن أحدا من الحركة، لكن الكل يتمايل ويصفق ويغنى. يد السيد عمر مكرم المرفوعة تباركنا جميعا، كما يباركنا نصف القمر الذى يرقد ــ فعلا ــ فى سعف النخلة التى تطل علينا. التحرير يفور، يميد، يزبد. البلد كله ينتظر، العالم كله ــ ربما ــ ينتظر.
ننتظر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved