فانتازيا النفايات

عمرو حمزاوي
عمرو حمزاوي

آخر تحديث: السبت 25 يوليه 2015 - 9:10 ص بتوقيت القاهرة

ثم ها هو فى أربعينياته يعود إلى الجامعة التى تعلم بها، إلى المدينة التى علمته حب الحياة وحب الجمال وحب الحرية. يريد أن يستنسخ «البداية الجديدة» التى أهدتها له المدينة فى عشرينياته، وتتعثر محاولته.

يريد أن يدفن نفايات السنوات الماضية فى نهارها الصيفى الطويل. يريد أن يعتاش على رومانسية ليلها الذى تتداخل به الألوان والأصوات ولغات الجسد والمشاعر والأفكار. يريد أن يسرق شيئا من حيوية الشباب الذين يعمرون جنباتها ومن حيوية معروض ثقافى يتعاظم تنوعه باستمرار. يريد أن ينشط خلايا الاحتياج للقراءة فيجول على المكتبات وأن يستعيد ذاكرة الاستمتاع بكل ما يتحدى القناعات المستقرة والطرائق المألوفة فيذهب كالمجذوب إلى قراءات أدبية وشعرية ويشاهد بنهم الأعمال المسرحية (قبل أن تبدأ العطلة الصيفية للمسارح) والأعمال السينمائية>

تقود نفاياته خطاه وتحدد وجهته، وهنا الفارق الكبير بين اليوم وبين إقامته البرلينية الأولى. يتعجب من سطوة النفايات، يقول لنفسه هى ليست سوى بقايا الرغبة فى ممارسة حب الحياة وحب الجمال وحب الحرية فى وطنه وفى التخلص من الغربة والمنافى كقدر محتوم. يقول لنفسه هى ليست سوى حفريات الحلم بوطن عادل يسهم هو بإيجابية فى سعيه نحو الديمقراطية والمساواة والتنمية المستدامة. يقول لنفسه هى ليست سوى غصات فى الحلق مما يراه ظلما تعرض له وأذى أنزل به وتشويها ألحقه به خدمة السلاطين ومكارثيى الحقيقة المطلقة والرأى الواحد وطيور ظلام الاستبداد، وغيرهم ممن كان لا يتابع أبدا إفكهم وترهاتهم ثم فرضت عليه غريزة الدفاع عن الذات إضاعة شىء من الوقت والجهد فى الاشتباك العبثى معهم. يقول لنفسه هى ليست سوى شىء من الأرق العقلى المرتبط بتقييم حصاد دفاعه الشخصى عن مبادئ الديمقراطية ونتائج دوره العام الذى ضحى من أجله عملا بمسار أكاديمى منظم. يقول لنفسه هى ليست سوى الشعور الإنسانى للغاية بالخوف من القمع والخوف على الاتساق الأخلاقى والقيمى الذى ينهيه التراجع عن الانتصار للديمقراطية والخوف من الخوف ومن ثم الاعتراف العلنى بوجوده ومقاومته بالامتناع عن الصمت على المظالم والانتهاكات. يتوقف لوهلة، فيدرك أن نفاياته هذه باتت تطول معظم جوانب حياته وأن سطوتها غير مفاجئة وأن «ليست سوى» يجافيها الصواب.

***

حين جاء المدينة للمرة الأولى هزه حبها للحياة بعنف، وخاطبه جمالها بعنف، وصرعت حريتها بعنف ما حمل معه من قناعات مغلقة ومن أنساق كلامية ووجدانية وفكرية تدعى زيفا احتكار الحقيقة المطلقة ومن تصنيفات صماء للخير والشر / للصواب والخطأ جوهرها الاستعلاء ومن استعداد مرضى للبحث عن المواقف الرمادية والاحتماء بظلالها هربا من ممارسة حرية الاختيار ومواجهة نتائجها. كانت هذه هى نفايات المرة الأولى، والتحقت بها نفايات أخرى ذات صلة بتعلم الإدارة المستقلة للحياة الخاصة وذات صلة بتعلم جر الخطوط الفاصلة بين الحرية الشخصية وبين احترام حقوق وحريات الآخرين. تخلص منها جميعا، ألقاها فى نهار وليل المدنية، أغرقها فى نهرها الضيق وفى بحيراتها المحاطة بغابات هى خزانات لمآسى الحروب ولرومانسية الأدباء والشعراء ولواقعية الفلاسفة والمثقفين الذين هزتهم دوما طاقة التدمير البشرية وﻷحلام المغردين خارج السرب والمتحركين بعيدا عن القطيع الذين عاقبهم المرة تلو الأخرى الحكام والنخب المهووسة بمصالحها الضيقة والأغلبيات الهيستيرية.

فى المرة الأولى تخلص منها بسهولة، هذه المرة تبدو نفاياته أكثر تراكما وقسوة وتستعصى على التفكيك والتحلل والإغراق. هل خارت قواه النفسية والعقلية المكتسبة إلى هذا الحد؟ هل أخرجته عاديات السنوات الماضية بعيدا عن دوائر القدرة على مغامرة أو مقامرة البدايات الجديدة؟ هل صار الألم وصار الياس لدى الأربعينى أكثر عنفا مما كان عليه حاله فى عشرينياته وهل تسطو عليه النفايات بفعل الألم واليأس؟ أم هل تراه اختزل هويته ووجوده ودوره فى مكان فى الوطن وفى رفض العودة إلى حياة الغربة والمنافى مهما كانت الضغوط والأخطار والتشوه الأخلاقى والإنسانى ومهما كان الجمود والانغلاق وانهيار الأمل؟

***

لا يعرف، إلا أن سبيله الوحيد اليوم هو مواصلة المحاولة المتعثرة.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved