مساجلات الاتفاق السرى

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 25 سبتمبر 2016 - 9:35 م بتوقيت القاهرة

تحت أضواء الكاميرات فى مجلس الأمن انطوت مساجلة وزيرى خارجية الولايات المتحدة وروسيا «جون كيرى» و«سيرجى لافروف» على شىء من الحدة غير المعتادة.

فى المساجلة صراعات قوة معلنة وحسابات سياسية متضاربة وسيولة زائدة فى الأوزان على الأرض، غير أنه لا توجد أية رهانات على حسم الأزمة السورية عسكريا.

أية مساجلة بالسلاح والدبلوماسية تعنى بالضبط الصراع على تحديد الأوزان قبل الذهاب الأخير إلى جينيف لتسويتها سياسيا، فلا بديل عن التسوية وفق صيغة جينيف.

خلفيات المساجلة أخطر مما تبدى فى مجلس الأمن أو فى المؤتمرات الصحفية، وما جرى أمام الكاميرات أقرب إلى إعادة تفاوض على «اتفاق سرى» يتضمن إجراءات ميدانية تمهد لتسوية سياسية.

بما هو ظاهر من تصريحات روسية فإنهم حصلوا على مكاسب جوهرية تحدد من يشارك أو لا يشارك بأية سلطة انتقالية مقبلة أو «فصل المعارضة عن التنظيمات الإرهابية»، بتعبير «لافروف».

باعتراف «جون كيرى» نفسه: فإن «بعض المجموعات فى المعارضة تتحالف مع النصرة، والنصرة تعنى القاعدة فى سوريا، وهذه حقيقة لا يمكن تجاهلها»، غير أن الحقائق السياسية والأخلاقية تتصادم بفداحة مع حسابات المصالح والتوازنات، فإقرار هذا المبدأ يعنى إرباك حركة حلفاء الولايات المتحدة وإضعاف وزنهم النسبى، ودفعهم إلى صدام لا يقدرون على تكاليفه مع التنظيمات المتطرفة.

لهذا السبب اعترضت وكالة الاستخبارات الأمريكية وقيادة «البنتاجون» على ما توصلت إليه وزارة الخارجية من «اتفاق سرى» مع الروس.

الاعتراض تسربت معلوماته إلى «الميديا» والمتحدث باسم «البنتاجون» أعلن رفض أى تبادل لخرائط تمركزات الجماعات المسلحة المختلفة مع روسيا.

بأى نظر جدى لا يمكن استبعاد أن يكون القصف الأمريكى لوحدات من الجيش السورى بالقرب من دير الزور متعمدا بتوقيته ورسائله، وبعض هذه الرسائل إلى الخارجية الأمريكية نفسها.

لا يعنى اعتذار «كيرى» أن القصف الجوى لم يكن مقصودا.

بالقدر نفسه فإن اتهام روسيا باستهداف قافلة مساعدات إنسانية للأمم المتحدة ليس محض تهيؤات، فالاحتمال لا يمكن استبعاده كما اتهام الآخرين.

فى مثل هذا النوع من الحروب كل شيء مستباح بغض النظر عن الاعتذار المتأخر أو النفى المراوغ.

المثير فى القصة كلها هذا التعارض شبه المعلن بين رئاسة توشك أن تغادر موقعها بالبيت الأبيض ومؤسسات قوة تمسك بأسباب النفوذ فى ميادين الصراع.

إدارة «باراك أوباما» تسعى إلى حلحلة كبيرة للأزمة السورية، باعتباره إنجازا يحسب لها فى الحساب الختامى بالحرب ضد الإرهاب.

وفق وزير خارجيته فإن «الرئيس أعطى الأوامر بالاستعداد لبدء التنسيق العملياتى مع روسيا فى سوريا، إننا جاهزون الآن».

الرهان على تحديد الملامح الأخيرة لـ«الحل السورى» يتداخل مع قرب حسم معركة تحرير الموصل من«داعش» فى غضون الأسابيع المقبلة.

غير أن مؤسستى القوة فى الاستخبارات و«البنتاجون» تخشيان من عواقب تلك المثل فى الإضرار البالغ بحلفاء الولايات المتحدة فى الإقليم وبالمصالح الأمريكية المستقبلية نفسها.

بالضرورة فإن الرئيس الروسى «فلاديمير بوتين» يدرك قيمة ما حصل عليه، وألح مرة بعد أخرى على إعلان نصوص الاتفاق الذى جرى بين وزيرى الخارجية.

بحسب ما تسرب على لسان وزير خارجيته فإن روسيا قبلت إدماج «أحرار الشام» وتنظيمات إسلامية أخرى فى العملية السياسية الانتقالية مقابل الإقرار النهائى باستبعاد «جبهة النصرة» واعتبارها تنظيما إرهابيا كـ«داعش» لابد من مواجهتها بالاستئصال العسكرى.

غير أنه فى مساجلة مجلس الأمن أكد على أن «بيانات وزارة الدفاع الروسية تؤكد أن أسماء المجموعات التى قدمتها الولايات المتحدة على أنها ملتزمة بالاتفاق انتهكته ٣٠٠ مرة ومن بينها أحرار الشام».

كأنه أراد أن يقول إذا ما تراجعت الخارجية الأمريكية ــ تحت ضغط مؤسستى القوة ــ فإن روسيا قد تطلب إعادة النظر فى دمج «أحرار الشام» بالعملية السياسية الانتقالية.

بصياغة أخرى هناك معضلتان أمام أية تسوية سياسية محتملة، وكلتاهما موضوع مساجلات السلاح والدبلوماسية.

الأولى، «بشار الأسد» ـ وقد جرت حلحلتها بموازين القوة أو تأجيلها لحين استبيان الحقائق الأخيرة بعد المرحلة الانتقالية.

بالنسبة إلى روسيا فهو خيار تكتيكى، وبالنسبة إلى إيران فهو خيار أيديولوجى ـ بتوصيف أمين عام الجامعة العربية السابق «نبيل العربى».

والثانية، «جبهة النصرة»، ولا توجد مشكلة فى تصنيفها كجماعة إرهابية غير أن إضعافها بالقصف الروسى هو إضعاف إضافى لــ«الجيش السورى الحر»، حيث بعض التحالفات وبعض التمركزات المشتركة.

وهذه مشكلة يصعب تجاوزها بسهولة رغم الإقرار المشترك بإرهابية التنظيم.

إلى أقصى حد متصور سوف تسعى روسيا لإظهار «الشريك الأمريكى» بأنه ضالع فى دعم التنظيمات الإرهابية المتطرفة مثل «النصرة» و«داعش» نفسها، والتصريحات فى هذا الاتجاه متواترة.

فى أى مدى منظور لا يمكن لأية إدارة أمريكية مقبلة أن تتعايش مع مثل هذه الاتهامات، فالأعمال الإرهابية تضرب وتروع الحواضر الغربية، وآخرها ما جرى فى نيويورك وولايتين أخريين قبل انعقاد أعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة.

على الرغم من تصادم الحسابات والمواقف فإن الخطوط العريضة للاتفاق السرى قد يبنى عليها بعد إعادة التفاوض على بعضها.

فى التوافقات إيصال المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة، فالمأساة أكبر من أن يحتملها الضمير الإنسانى ولا يوجد طرف دولى واحد مستعد أن يتحمل مسئولية ما يجرى.

وقد بدأت المساعدات تتحرك ولو ببطء نسبى رغم كل الشكوك المتبادلة.

وفى التوافقات التمسك بضرورة وقف إطلاق النار وتمديد الهدن حتى يمكن بعدها أن تبدأ القوتان الكبيرتان فى العمليات المشتركة ضد «داعش» و«النصرة«، غير أن المشكلة فى التفاصيل.

المبدأ العام يقضى بحظر تحليق الطيران الحربى السورى فى شمال سوريا قبل أى تنسيق عسكرى يستهدف تنظيمى «داعش» و«النصرة».

وهذا أكثر المبادئ التى تضمنها «الاتفاق السرى» جوهرية وإثارة للجدل والمساجلات أمام كاميرات مجلس الأمن وخارجه، ومشكلته فى الخرائط والموازين وكشوف الربح والخسارة.

مع التأكيد المتواتر على الحل السياسى لأكثر أزمات العالم دموية وخطورة احتمال الحلحلة كما الفشل، فكل شىء سائل بالسلاح والسياسة.

لا يستبعد «كيرى» التدهور إلى الأسوأ الذى لم يأت بعد، رغم فيض الدماء التى سالت، ولا يرى «لافروف» أن هناك جديدا فى اجتماعات اللجنة الدولية لدعم سوريا الذى أعقب مساجلة مجلس الأمن.

الأكثر مأساوية أن العالم العربى لا توجد لديه أية تصورات مشتركة قادرة على التأثير فى مجريات الحوادث وعمق المساجلات.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved