ثرثرة فى كوم الدكة

طلعت إسماعيل
طلعت إسماعيل

آخر تحديث: الثلاثاء 25 سبتمبر 2018 - 8:55 ص بتوقيت القاهرة

بناها الإسكندر المقدونى قبل أن يعرف الشرق المدن، وزادها البحر بهاء، فهى تارة ابنة للشمس، تتسربل فى الضياء، وأخرى زوجة للقمر، ترفل فى الاحلام التى يصعب منالها فى بعض الاحيان.. خمرية صقلت من برونز، وكحلت عيونها الواسعة بزرقة تمتد على أفق فسيح ليس له حد.. وشوشها البحر، وباح لها بكل مستور، فكانت كما هى على امتداد عمرها المديد عروسا تتيه خيلاء على أقرانها، بما منحها الله من جمال لا يضاهيه جمالا.
تلك هى الإسكندرية، كما يراها عشاقها.. نعم تغير الزمان، وجاء على القوم أحداث عظام أخذت من «الدلوعة» بعضا من بريق، غير أنها تظل عروس مدن مصر من جنوبها الأسمر، ومرورا برأسها «الكاسح»، فى قاهرة المعز، حسب وصف الجغرافى الأعظم، جمال حمدان، وصولا إلى رمال المتوسط فى اقصى شرقه المصرى عند رفح، وحتى السلوم فى الغرب.
شغفا بالمدينة التى قدت من كلس مشبع باليود، اسارع كلما حطت قدماى أرضها إلى نهب الكورنيش سيرا، مادا البصر باتجاه الشمال الذى تتطلع إليه العيون على مدى النهار وغالبية الليل، بادئا بقسمها الشرقى عند منطقة رشدى، قبل الوصول إلى «بحرى» بجوار شيخها العابد «أبى العباس المرسى القادم من بلاد الأندلس، ليصبح اسمه صنوا للإسكندرية ذات الجذر اليونانى المغروس فى أرض مصر المحروسة.
هذه المرة، وكما كل المرات، التى أزور فيها الإسكندرية، مشيت على غير هدى، اتشمم رائحة يظل عبيرها فى أنف كل محب، وإن غادر المدينة، التى تدفعه للعودة من جديد. بدا المشهد العام اعتياديا، فقد كان ابناء الإسكندرية، وزوارها، فى الشوارع الخلفية، وتلك التى «ترى البحر»، يودعون «آخر أيام الصيفية»، كما غنت فيروز.
على المقاهى الأقرب إلى قصر رأس التين والانفوشى، وفى الترام التى تنتظر تطوير الحكومة، كان السور الذى يحجب البحر عن عيون الفقراء قرب قلعة قايتباى الشهيرة، وفى مناطق متفرقة من الكورنيش زرعت بالمنشآت السياحية، مادة ثرية للنقاش مع من التقيتهم، وسط حسرة على الأيام الخوالى التى كان الناس فيها يستمتعون برؤية البحر بلا تكلفة.
بعد أكثر من ساعتين من التسكع، قادتنى أقدامى للقاء صديقى القديم، الخبير السياحى، شريف عبدالبديع، حيث كان يجلس برفقة اصدقائه على مقهى بمنطقة كوم الدكة، مسقط رأس فنان الشعب خالد الذكر، سيد درويش. المكان فى شارع جانبى تتقاطع معه شوارع عرضية قصيرة اشبه بالفروع التى تصب فى النهر السابح. كان غالبية رواد المقهى منشغلين بمباراة الزمالك ونادى المقاولون العرب، عندما تحلقنا حول مائدة من رخام بأرجل حديدية، حملت عدة أكواب من الشاى والقهوة. 
على وقع احتساء المشاريب التى امتدت إليها أياد سمر، تشى بجذورها الجنوبية المنشأ، تبادل الجالسون حديثا اشبه بـ«ثرثرة» أتت على ذكر اسماء لكبار المثقفين المصريين الذى مروا على الإسكندرية، إما مقيمين، أو عابرين، وطبعا كان أديب نوبل وصاحب «ثرثرة فوق النيل» و«السمان والخريف» الأكثر حضورا على الألسنة.
تحدث البعض عن احلام التغيير التى فجرتها ثورة ٢٥ يناير، وما تلاها من أحداث قلصت، فى نظر بعض الحضور، من تلك الاحلام التى كانت قريبة المنال. حكى البعض الاخر عن إمكانية تدارك الاخطاء التى فرضتها التجاذبات، غير أن الحديث عن الإعلام المصرى وبعض رموزه الذين تبددت مصداقيتهم، ولم يعد حديثهم «المستهلك»، يقنع أحدا، طغى على الجلسة التى جاءت بلا ترتيب مسبق.
دارت مقارنات بين إعلام اليوم، وإعلام الأمس غير البعيد، وكيف كان الصحفى أو الإعلامى يملأ العين ويقنع الرأس، بتعبير الخمسينى المثقف الذى يقرض الشعر، ويكتب القصص القصيرة. حاولت فى شطر من الحوار تصحيح بعض الصورة المغلوطة التى قد تضع كل الصحفيين فى سلة واحدة، وفشلت فى الدفاع عن اخطاء فى الإعلام لا يمكن إنكارها.
تشعب الحديث. واختلط العام بالخاص لنحو ثلاث ساعات، قبل أن أغادر شريحة من ابناء مصر، تثبت أن وعى الناس أكبر مما يظن بعض المتحذلقين.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved