مسائلنا الداخلية فى سياستنا الخارجية

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 25 أكتوبر 2017 - 8:50 م بتوقيت القاهرة

علمونى فى الجامعة ثم فى وزارة الخارجية أن تنمية البلاد وتأمين دفاعاتها هما أهم أهداف السياسة الخارجية لأى بلد. ما تعلمناه كان يختلف بطبيعة الحال عما كان يتعلمه قبل مائة عام الشاب الإنجليزى أو الفرنسى المقبل على الانشغال بالعمل الدبلوماسى. كان يتعلم أن الهدف من سياسة بلاده الخارجية ضم أراض وشعوب جديدة إلى إمبراطورية لا تغيب عنها شمس، وأخرى فرنسية تلاحق الأولى ولا تلحقها. كانت السياسة الخارجية لكليهما تختص أولا برعاية المصالح الخارجية وتسوية الصراعات بين الإمبراطوريات وإدارة النزاعات بين قبائل المستعمرات. جاءت مرحلة الاستقلال وراحت الدول الساعية للاستقلال الكامل توظف سياستها الخارجية الناشئة لتحقيق هذا الاستقلال وضمان سيادتها على أرضها وتمكينها للدفاع عنها، وأخيرا المساهمة بالجهود الدبلوماسية فى بناء الأمة.
***
حاولت، مستعينا بزملاء موقرين، أن أقارن بين أنواع الضغوط التى تعرض لها صانع السياسة الخارجية فى مرحلة مبكرة من مراحل ما بعد الحصول على الاستقلال وما يتعرض لها صانع هذه السياسة فى وقتنا هذا. دفعنى إلى هذه المحاولة ما سمعته وأسمعه منذ فترة غير قصيرة من أن صانعى السياسة الخارجية المصرية يتعرضون لضغوط فى الداخل وقضايا تعرقل جهودهم وتجعل مهمة صنع السياسة الخارجية أصعب أو أقل سلاسة ومحفوفة بمحاذير. جرت محاولتى فى هدوء بعد أن نحَّينا جانبا توترات تؤثر غالبا فيما يصدر عنا من تحليلات وآراء. خلصنا إلى قضايا بعينها لعلها تكون بالفعل الأهم بين الظروف التى تحيط بعملية صنع القرار السياسى وتجعل مهمة صانعى هذه السياسة صعبة.
***
خلصنا أولا إلى أن النخب الحاكمة تلجأ إلى حشد الجماهير وراء شعارات وطنية بعضها مبتكر وأكثرها مبالغ فيه. لجأت نخبة بلادنا كثيرا إلى هذه الوسيلة فى كسب الدعم من دون أن تراعى أن للوطنية الفائضة عن الحاجة والمبالغ فيها والتى تفتقر إلى إنجازات تصاحبها مضار وربما مخاطر، وهى بالتأكيد عقبة أمام صانع القرار. أساسا نعيش، كما تعيش معظم شعوب العالم، فى حالة صحوة وطنية حقيقية لم تحدث نتيجة حشد من النخب الحاكمة بل تحت ضغط العولمة وتداعياتها. وقعت هذه الصحوة رد فعل لعولمة تدعو لتقييد مبدأ السيادة وإضعاف دور الدولة فى كل المجالات لصالح حرية التجارة وتيسير انتقال الأفراد.
دعت الضرورة جماعة الحكم فى مصر إلى رفع شعارات وطنية لمساندتها فى التصدى لآثار العولمة، وأهمها تفجر عدد من أزمات الهوية مثل الهوية المسيحية والظلم الواقع على الأقباط عموما وقضية أهل الجنوب. بالغت أحيانا فى تصوير خصومها الطبيعيين مثل نظام حماس فى غزة وكذلك الوهميين مثل المؤامرة الدولية على مصر. أعود فأقول إن صفة المبالغة هنا تعنى أن بعض الشعارات لم تكن على مستوى التحديات أو لم تنسجم أو تتسق مع الإنجازات أو لم تكن مقنعة فأثارت شكوكا حولها وحول غيرها من الشعارات. أذكر هنا مثالا بارزا على الصعوبات التى تواجه صانع القرار بالصعوبات والتعقيدات التى واجهت تنفيذ قرار تسليم تيران وصنافير إلى المملكة السعودية، هنا اصطدمت مشاعر وطنية طبيعية بشعارات وطنية مصطنعة أو مؤلفة لغرض طارئ. هناك أيضا رد الفعل لقرار التصالح مع حماس الذى جاء مفاجئا للكثيرين من ذوى رأى شاركت فى صنعه شعارات وطنية بولغ فى صياغتها وصورت حماس عدوا خالصا. أستطيع أن أقرر أن قرار التصالح مع حماس ينفذ الآن بدون حماسة ودعم ضروريين من الرأى العام مثله مثل قرار تسليم تيران وصنافير، وهو وضع قد تكون له تداعيات فى المستقبل يصعب التنبؤ بها الآن. الوطنية حافز وسند فى صنع قرار السياسة الخارجية وشرط أساسى لتنفيذه وفى حالات كثيرة يمكن أن تكون الوطنية أو غيابها عقبة وضغطا ثقيلا سواء فى مرحلة صنع القرار ومرحلة تنفيذه.

***
خلصنا ثانيا إلى أن النوستالجيا قد تمثل عقبة أو صعوبة أثناء عملية صنع قرار السياسة الخارجية. أقصد بالنوستالجيا الحنين العام أو لدى قطاعات فى الرأى العام أو لدى صانعى القرار أنفسهم لمرحلة مضت. كلنا نحنُّ إلى شىء ما أو زمن ما أو شخص ما خلف فى حياتنا أثرا قويا. عشت مع إيطاليين يعشقون بنيتو موسولينى ويحنون إلى العهد الفاشى حتى أنهم شكلوا حزبا يدين بعقيدته. نعيش فى مصر مع مواطنين يعشقون عبدالناصر ويحنون إلى عهده حتى أنهم شكلوا عديد التيارات والأحزاب السياسية لتنطق بأفكاره وتطالب باستعادتها منهاجا للحكم. نعيش أيضا مع مواطنين ومسئولين يعشقون السادات ومع آخرين بدأوا يعشقون مبارك. بل اكتشفت أخيرا أننا ما زلنا نعيش مع من يحنون لعهود حزب الوفد ويعشقون النحاس باشا. أستطيع أن أتخيل حجم الصعوبة التى تواجه صانع قرار فى السياسة الخارجية يتعين عليه أن يأخذ فى الاعتبار كل هذا الحنين، وبعضه موجود حتما داخل الأجهزة المعاونة فى صنع القرار الخارجى. هذه الصعوبة لا شك أنها تواجه الآن المسئول عن صنع قرار خارجى يتعلق بعلاقة مع دول الخليج أو بمستقبل ناحية من نواحى العمل العربى المشترك أو بالعلاقة غير السوية حتى الآن مع دولة إسرائيل، أو بقرار لعله مطروح الآن فى معامل صنع القرار الخارجى، وهو قرار الاختيار بين إيران وإسرائيل خصما ألد لمصر والمصريين. الحنين إلى الماضى لا يقل أهمية عن الشعور الوطنى، كلاهما من أهم عناصر الضغط على صانع القرار السياسى.
***
ليس سرا أو موضوعا يمكن إغفاله حقيقة أن الصراع فى مصر وبلاد عربية أخرى محتدم على كل المستويات حول مسائل الإصلاح الدينى، وأن هذا الصراع يقف فى حد ذاته عقبة ويمثل صعوبة متناهية فى عملية صنع السياسة الخارجية المصرية. مصر، كما السعودية والأردن وغيرهما من الدول العربية ملتزمة أمام العالم الغربى الإسراع فى تنفيذ برامج إصلاح الدين ومؤسساته. نعرف بالتجربة أن أى تقدم فى هذا المجال داخليا سوف يمس بالضرورة مصالح المؤسسات والجمعيات وربما آلاف المصريين المعتمدين فى حياتهم على كرم قادة المذهب الوهابى، قادته السياسيون والدينيون وممثلوه المعتمدون فى مصر.
الخلافات فى مصر محتدمة أساسا بين دينيين وعلمانيين، وبين دينيين محافظين ودينيين إصلاحيين، وبين إصلاحيين متدرجين وإصلاحيين متسرعين، وبين مسلمين أقرب إلى التعصب ومسيحيين أقرب إلى التمرد، بين أتباع إسلام صحراوى متشدد وأتباع إسلام مصرى معتدل. الاختلافات كثيرة وكلها تضغط، وسوف تضغط أكثر مع كل اقتراب من قرار هيكلة العلاقات مع دول الجوار مثل إيران وتركيا. سوف تضغط أيضا مع كل إهمال أو تأخير فى التعامل الجاد مع المسألة المسيحية فى مصر.
***
كان قرارا هاما انضمام مصر كعضو مؤسس فى الحلف « الديموقراطى غير الليبرالى» الذى تزعمت الدعوة لإنشائه روسيا البوتينية. الحلف يضم الدول التى اختارت أن تقيم ديموقراطية نابعة من ثقافة وأيديولوجية نخبتها الحاكمة، وهى ثقافة وأيديولوجية أتقنت النخبة ممارستها وتجويدها خلال فترات حكمها الذى امتد لنحو خمسة وسبعين عاما. أعتقد أنه رسخ فى ظن الكثيرين أن ثورة ربيع مصر لم تحسم الصراع الوطنى حول هذه القضية وأن حسمه قد جرى فعلا فى الأعمال المناهضة للثورة المستمرة طيلة السنوات الست الماضية. فى ظنى أنا أنها لم تحسم لا بالثورة ولا بالأعمال المضادة للثورة بدليل أنها مازالت ماثلة وبإلحاح على جدول أعمال صانعى السياسة الخارجية فى مصر. تبقى ماثلة مسائل العدالة والحريات والمساواة وماثلة أيضا قضية مصير المجتمع المدنى. هذا المجتمع المدنى لن يلغى وجوده إنكار واستنكار أنشطته وتشويه سمعته، ولن يرفع من قيمة ومكانة مصر الخارجية الاعتماد كليا وحصريا على الدبلوماسية الرسمية وتجاهل دور العلاقات البينية بين مجتمع مدنى محلى ومجتمع مدنى دولى. وفى هذا الإطار يجب القول بأنه لا يفيد العمل السياسى الخارجى إرسال وفود تعينها الحكومة لتمثل المجتمع المدنى فالفشل وكثير الضرر كانا من نصيب جميع التجارب من هذا النوع. فى مصر مجتمع مدنى وطنى وحقيقى ومفيد إذا أحسن صانع السياسة الخارجية التعامل معه من أجل الصالح الوطنى.
***
السياسة الخارجية لأى دولة يجب أن تكون فى خدمة المجتمع بكل فئاته وطوائفه وعقائده، كما أن إحدى المهام الأسمى لجهة الحكم وصنع القرار هى أن تزيل العقبات والصعوبات التى تعترض عملية صنع السياسة الخارجية ليصدر القرار فى نهاية العملية سليما ودقيقا وقابلا للتنفيذ.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved