الهموم المحلية تطرد السياسة من الشارع

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 26 يناير 2011 - 9:57 ص بتوقيت القاهرة

 السؤال الذى يطرح نفسه، فى هذه اللحظة، مع فائض من التمنى، على امتداد الوطن العربى هائل الاتساع: أين بعد تونس؟ ومن بعد زين العابدين بن على؟ ومن الثالث والرابع.. إلخ...

ذلك أن أهل النظام العربى هم فى غالبيتهم من خريجى المدرسة ذاتها التى ولدت «طاغية تونس»: يكرهون التغيير، ولا يحبون تلك الفوضى التى اسمها الديمقراطية والتى تدعو إلى المساواة بين من هم بالولادة غير متساوين. ثم إنهم لا يطيقون التعدد ويرونه فوضى مهلكة كذلك فان نظرتهم إلى شعوبهم واحدة: فيها الكثير من تعالى المرجع الأعلى ومن تكرم المحسن والمتصدق، وفيها شدة المؤدب والالتزام وبواجب «الأستاذ» تجاه تلامذته المبتدئين... كذلك فإن فيها صرامة المدرب والذى يهيئ رعيته لكى تتقبل «الانتخابات» التى تساوى بينهم «لكل مواطن صوت»، ولتحسن اختيار ممثليها فلا تخدعها الشعارات البراقة ولا تسحبها الوعود الخلابة إلى حيث يمكن أن تؤذى نفسها عبر مصادمة النظام الجبار بالخروج على طاعة ولى الأمر.

فى الأيام الأولى «لانتفاضة الصبار» التى تفجرت مع إحراق محمد البوعزيزى نفسه فى بلدة «سيد بوزيد»، افترضت «الدول» زين العابدين بن على أن ما يجرى «شغب» سينتهى حيث بدأ، وأن من تحركوا هم مجموعات بسيطة من المتطرفين وقد التحق بها عدد من العاطلين عن العمل والمتسكعين فى الشوارع، وأن كل ذلك سينتهى خلال ساعات.

أما بعد انهيار النظام وفشل آلة القمع فى وقف الانتفاضة ومنع توسعها وتمددها حتى اجتياح العاصمة، فقد توقفت «الدول»، وبالذات الولايات المتحدة وفرنسا، عن الاتصال بـ«بن على»، وحاول قادتها الإيحاء بأنهم طالما حذروه فلم يسمع، وأنه كابر وعاند ووثق أكثر مما يجب ببعض «رجالة» ممن تدخلت «العائلة»، أى السيدة زوجته فى اختيارهم.. وختموا بأن لاموه لأنه تأخر فى تسديد الضربة القاضية فسبقته الأحداث ولم يفد مسلسل التنازلات التى قدمها فى منع الانهيار.

●●●


بل إن بعض من « كانوا» أصدقاء للزين ثم أنكروه لا يتعبون هذه الأيام من التشهير بزوجته وأسرتها، وبأقارب بن على الذين أحاط بهم نفسه فصاروا حاجزا بينه وبين «رعيته».. وبعضهم يختم شامتا: كان عليه أن يبقى شيئا من الأموال العامة للعامة. إنه لم يشبع. وكذلك السيدة زوجته التى جعلت نفسها أمين الصندوق. لقد احتكرت الأسرتان مصادر الرزق جميعا، لذلك لم يجد طبقة عازلة من المستفيدين من نظامه قوية ومتماسكة وذات حضور شعبى مقبول، تحميه من الغضب الذى بدأ التعبير عنه بشكل محدود ثم اتسع كما النار فى الهشيم حتى اضطره إلى الهرب.

أما الأكثر دهاء من أهل النظام العربى فقد عكف فورا على دراسة ما جرى فى تونس: جاء بالأفلام المصورة عن الأحداث وخريطة تنقلها فى الأرياف ثم انتقالها إلى العاصمة. طلب فجىء له بترجمات لما كتب فى سائر أنحاء العالم عن تكتيك الانتفاضة وعن أخطاء النظام.

تكشف تجربة تونس التى تتبدى فريدة فى بابها.. فلا قيادة معلنة هى من يتولى إعداد المسيرات وتوجيه الجماهير وفق برنامج محدد سلفا.

لم نر ولم ير العالم غير «الشارع». تبدأ الحركة محدودة، وإلى حد معزولة فى الأرياف البعيدة عن العاصمة، ثم تسرى شعاراتها المصبوغة بعدما أججها إحراق «محمد البوعزيزى» نفسه احتجاجا على الظلم والقهر وغياب ضمانات العيش الكريم، بالحد الأدنى الضرورى لبقاء الإنسان يعيش بعرقه.. مع الكرامة.

ولقد لامست النار التى التهمت جسد «محمد البوعزيزى» التوانسة جميعا، فى حين هزت مشاعر الناس، كل الناس، فى المحيط العربى وفى العالم، وصارت صورته أيقونة للفقراء والمنبوذين والمقهورين والمضطهدين فى أوطانهم، المحرومين من خيراتها برغم استعدادهم الدائم للتضحية من اجل عزتها وكرامتها واستقلال إرادتها.

لعل التوانسة، الذين يعيشون أوضاعا مزرية مشابهة لوضع محمد البوعزيزى قد أحسوا أنه قد افتداهم، بنسبة ما، انه أقدم ــ مدفوعا باليأس ــ إلى ما يخطر ببال بعضهم أحيانا.. لكن أكثريتهم شعرت أنه يستفز رجولتهم، وانه يتحداهم فى إثبات حضورهم وقدرتهم على تغيير واقع الحال.

ومؤكد أن الاحتجاج قد تحول إلى كرة ثلج أخذت تتعاظم عبر تدحرجها من جهة إلى أخرى حتى بلغت العاصمة مستولدة دينامية خارقة من التفاف الجماهير التى كان القهر الذى لا تبدو له نهاية معروفة قد حفزها على المواجهة، محتمية بتكاثر الملتحقين بها، حتى إذا ما بلغت أبواب العاصمة اكتشف المشاركون فيها أنهم شعب تونس.. بالكامل. كان اليأس من أهل النظام مطلقا.

لم تجد الجماهير من تلجأ إليه لتشكو الطغيان والفساد والظلم، لم تجد من تذهب إليه لتناشد ضميره بأمل أن يستيقظ فجأة فيتنبه إلى ضرورة إنصاف الناس من الغبن الذى يطاردهم فى أرزاقهم، فيحرم الأكفاء من فرصة التقدم إلى المواقع التى يستحقون، ويسد الباب أمام طوابير الخريجين ويدفعهم دفعا إلى الهجرة إلى أى مكان يقبلهم، وبأية شروط يفرضها عليهم من سوف يستخدمهم.

●●●


وكان يمكنك أن تلتقى فى باريس وضواحيها وسائر ضواحى المدن الفرنسية الأخرى، الساحلية خصوصا، كما فى عواصم الخليج العربى، أبوظبى ودبى والشارقة وأم القوين والفجيرة، كما فى الدوحة والكويت، على خريجين وخريجات مؤهلين جاءوا من تونس طالبين فرصة عمل بأية شروط، ومهما كنت مجحفة لأنهم لم يجدوا أفضل منها أو حتى مثلها فى بلادهم.. الخضراء. ومن بؤس أقدار هذه الأمة أن البؤس صار هو وحده الباب إلى التغيير.

إنها ثورة بيضاء، وإن كان قمع النظام الذى أسقطته قد صبغها بالدم، ولكنها بيضاء بمعنى أنها لا تحمل توقيع أحد:

لا الجيش ولا الأحزاب العقائدية ولا التنظيمات الدينية، يستوى فى ذلك المتطرف منها والمعتدل.

ثم إنها تستبطن فلسطين التى لم يقبلها النظام السابق، إلا كلاجئ سياسى وبالشروط الإسرائيلية، ولو أن مصدرها الإدارة الأمريكية: أفسحوا مجالا للثوار الآتين من لبنان لكى يعودوا رجال شرطة إلى الأرض المحتلة، فيتخلص منهم الجميع، العرب وإسرائيل.

فالنظام الذى أسقطته الانتفاضة فى تونس كان على توافق مطلق، بل لعله كان اسبقهم إلى اعتماد اليقين من أن صفحة حروب التحرير قد طويت وانتهى الأمر: فلسطين لا تحتل إلا هامشا بسيطا من علاقتهم بالإدارة الأمريكية، بعدما سلموا بالاحتلال الإسرائيلى لأرضها، وإن استمروا يطالبون ببعض البعض منها لدويلة فلسطينية فى بطن الدولة الحاضنة، إسرائيل، دولة يهود العالم الديمقراطية، المعززة بالرعاية الأمريكية المباشرة.. وهذه الرعاية يمكن أن تكون أداة جمع بين الأعداء السابقين، وإطارا ممتازا للدخول إلى عصر العولمة حيث لا حروب قومية أو دينية أو عرقية، وكل المسائل تحل بالتفاوض تحت الرعاية الأمريكية مباشرة أو عبر مجلس الأمن الدولى الذى بات بمثابة دائرة تصديق لقرارات البيت الأبيض.

●●●


الأخطر أن أهل النظام العربى قد نجحوا فى شطب الأحزاب العقائدية والمنظمات والهيئات الشعبية والنقابات وكل أطر التنظيم الشعبى. ففى كل بلد «حزب الحاكم» تسانده قوات الأمن المركزى و«شرعية» النظام، والرعاية الأجنبية مانعة الثورات والتى تساعده فى كشف «المتواطئين» عليه و«المخططين لخلعه» والمتهمين دائما بإثارة الشغب.

على أن بين ما كشفته هذه الانتفاضة المباركة فى تونس هو سيادة الهم المحلى، وبالتحديد ذلك المتصل بوحشية السلطة فى مواجهة مطالب الشعب وهمومه.

لقد نجح النظام المخلوع فى عزل تونس عن محيطها، تماما وقطع كل صلاتها ووشائج العلاقات الأخوية مع مختلف الأقطار العربية، فحلت المخاصمة أو البرودة محل المصالح المشتركة، وصارت واشنطن اقرب من الجزائر أو القاهرة، وبالتالى صار لإسرائيل شىء من «الحضور» بينما بهتت العلاقة مع القضية الفلسطينية وأن استمرت مع أهل السلطة.

ومع أهل هذا الجنوح نحو الهموم المحلية بديهى، خصوصا وأن تلك الهموم هى التى وفرت المبررات لإسقاط نظام بن على، إلا أن صيغة الحكم الجديد ــ وهى لم تتبلور بعد ــ ستبدل قطعا فى الاتجاه مضيفة قدرا من العروبة ومن الإسلام السياسى إلى التوجهات العامة لهذا الحكم.

إن أصداء نشيد الحرية الذى أبدعه شاعر تونس أبوالقاسم الشابى، تتردد الآن فى أربع رياح الأرض العربية. كل الشعوب العربية المقهورة تستعد لان تطلق فى أقطارها ذلك النشيد الذى يكاد يكون برنامجا ثوريا للتغيير:


«إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر

ولا بد لليل أن ينجلـــــــى ولا بد للقيد أن ينكسر..»


من هو النظام التالى الذى سيلحق بنظام زين العابدين بن على؟!

المباراة مفتوحة، لكن النقص الجوهرى يتمثل فى خلو الساحة من الأحزاب العقائدية ذات التاريخ النضالى، وبغض النظر عما إذا كانت هويتها عربية أو إسلامية.

إن النظام الجديد بلا برنامج. إن أقصى ما يمكن أن يحققه هو تبنى المطالب الملحة للناس والتى يمكن اختصارها بإطلاق الحرية: الإفراج عن المعتقلين السياسيين، فتح الباب لعودة المنفيين، العفو عن كل الذين كانوا متهمين فى وطنيتهم أو فى دينهم بسبب خروجهم على النظام.

والانتفاضة تحتاج الى هوية سياسية لكى تصير ثورة. وهذا بالضبط ما سيكشفه الصراع المحتدم فى تونس بين المشاركين فى الانتفاضة والذين يفتقدون القيادة المؤهلة لاجتراح تلك الثورة بهوية تحفظ للانتفاضة شرفها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved