هكذا يتحدث الرئيس مرسى.. وهكذا تفكر الجماعة

زياد بهاء الدين
زياد بهاء الدين

آخر تحديث: الثلاثاء 26 فبراير 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

خطابات الرئيس محمد مرسى وتصريحاته تثير دائما جدلا مفهوما ومتوقعا. ففى ظل الاحتقان السائد فى الشارع السياسى والشعبى، والانقسام الشديد بين مؤيديه ومعارضيه، طبيعى أن ينقسم الرأى العام فى أعقاب كل حديث أو خطاب بين مؤيدين متحمسين يرون أنه يعبر عن نبض الشارع ويعمل لصالح الوطن ولتحقيق الاستقرار، وبين معارضين أكثر حماسا لا يجدون فى كلامه سوى مفارقات وسقطات وتناقضات يجعلونها مادة للسخرية فى برامجهم التلفزيونية أو على صفحاتهم الإلكترونية. هذا كله ليس غريبا ولا مستهجنا فى حد ذاته، بل من مظاهر ما نزال نتمتع به من حرية التعبير والقدرة على التندر والضحك حتى فى أحلك الظروف. ولكن الواقع أن المبالغة فى مديح الرئيس والبحث عن الحكمة والعبقرية فى حديثه أو فى التقاط مواطن السخرية والتندر، كلاهما لا يعطى فرصة لتحليل مضمون حديث الرئيس تحليلا نقديا جادا ولا للتفكير فيما يتضمنه من معان أكثر عمقا.

 

أكتب هذه الكلمات بعد ساعات قليلة من الحديث الذى أجراه الرئيس على قناة المحور فجر الأمس. ومع ذلك فإن تعليقى هنا لا يستند إلى هذا الحديث وحده وإنما إلى مجمل ما سمعته وتابعته من خطابات الرئيس وكلماته فى مختلف المناسبات، وما استوقفنى فيها من سمات عامة ومتكررة.

 

السمة الأولى هى سيطرة فكرة الاستقرار على تفكير الرئيس، ولكن من خلال مفهوم «لا ــ اجتماعى» وجامد. فالاستقرار لديه هو نوع من الوصول لوضع طبيعى ومثالى، يعرف فيه كل مواطن دوره، ويتحرك فيه دولاب العمل والإنتاج كالساعة، وتتدفق المياه فى قنواتها والدماء فى شرايينها، دون أن يعكر صفوها أى شائبة. لماذا أصف هذا الأسلوب فى التفكير بأنه «لا ــ اجتماعى»؟ لأنه لا علاقة له بما يموج فى المجتمع ــ أى مجتمع ــ من صراع وتفاعل وتوتر بين الطبقات وبين الثقافات وبين الأجيال، بما يجعل هذا النوع من الاستقرار البسيط غير وارد التحقق إلا فى الخيال. الاستقرار الحقيقى هو ذلك الذى يستند إلى فهم وتقدير وقبول لضرورة وجود حراك اجتماعى وصراعات وتحالفات وتغير مستمر، وليس الاعتقاد بإمكان الوصول إلى حالة من السكون والرضاء الشامل التى يزول معها كل توتر وانقسام ويسكت كل احتجاج. ولذلك فإن وعد الناس بأن الاستقرار المنشود سيأتى فور الانتخابات الرئاسية، ثم فور قبول الدستور، ثم فور انتهاء الانتخابات البرلمانية، لن يتحقق بهذه الطريقة لأن الفكرة كلها غير سليمة.

 

السمة الثانية هى أنه لدى رئيس الجمهورية مفهوم هندسى عن كيفية التقدم إلى الأمام والتعامل مع مشكلات البلد وأزماته. والذى أقصده بذلك هو الاعتقاد بأن حل المشكلات يكون بتناولها واحدة تلو الأخرى، وأنه يمكن التركيز على قضية واحدة ذات أولوية بينما باقى المشكلات والأزمات مركونة بعناية على الرف حتى يأتى دورها. هذه فى اعتقادى هى كارثة أسلوب الرئيس وحكومته فى التعامل مع الأزمة الاقتصادية الراهنة وسبب تفاقمها بلا داع. المستمع لأحاديث الرئيس لا بد أن يلحظ أن هناك ترتيبا جامدا فى ذهنه للأولويات التى ينبغى التعامل معها، وفى قلبها ضرورة استكمال البناء الدستورى للدولة وحسم الصراع السياسى أولا (وهو حسم لصالح جماعة الإخوان المسلمين) قبل النظر فى اتخاذ أية إجراءات جادة للتعامل مع الوضع الاقتصادى المتأزم ومع مشكلات الناس الملحة. الاقتصاد ينهار، وأزمات الوقود والسماد تتكرر، والقطارات تطيح بالناس وبأطفالهم، والسياحة تتراجع، والمصانع تتوقف، والاحتياطى النقدى يتآكل، والناس تصرخ فى الشوارع، ولكن لا صوت يعلو على صوت المعركة. ولكن فى هذه الحالة فإن المعركة ليست مع إسرائيل ولا لتحرير سيناء أو فلسطين، بل المعركة الوحيدة الجديرة بالاهتمام هى معركة السلطة، هى معركة الرئاسة والجمعية التأسيسية والدستور والاستفتاء والانتخابات البرلمانية. هذه هى المعركة التى يجب حسمها أولا ثم النظر بعد ذلك فى باقى المشكلات التى يمكن عندئذ حلها بسهولة كالاقتصاد والوقود والمزلقانات والاحتياطى النقدى. ولكن الواقع أن هذا الأسلوب الهندسى فى ترتيب المشكلات والاعتقاد بإمكان التعامل معها واحدا بعد الآخر هو سبب الكارثة الاقتصادية التى نمر بها لأن المشكلات والأزمات الاقتصادية لا يمكن تأجيلها ريثما ينتهى الصراع على السلطة.

 

أما السمة الثالثة فى خطاب الرئيس فهى التناقض اللافت فى تعامله مع موضوع القانون والعدالة. فالرئيس لا يتردد عن الحديث باقتناع حقيقى (أو هكذا ببدو لى) عن أهمية تطبيق القانون بمنتهى الحزم على البلطجية واللصوص ومن يعتدون على المنشآت العامة وعن ضرورة أن تأخذ العدالة مجراها معهم دون استثناء. ولكنه فى الوقت نفسه يغفل تماما أن شرعيته فى السلطة والحكم قد تآكلت مع الوقت وفقدت رصيدها لدى الناس تحديدا بسبب التجاهل غير المسبوق للقانون. لا الدستور الذى جرى تمريره عنوة، ولا حصار المحكمة الدستورية، ولا تحصين قراراته من رقابة القضاء، ولا احتجاج المجتمع القضائى، ولا تعيين نائب عام مرفوض من جهاز النيابة، ولا تعيين ثلث مجلس الشورى بالمخالفة للدستور الجديد، ولا ترك جماعة الإخوان المسلمين بلا شرعية قانونية، كل هذه ظواهر لا يبدو أنها تقلقه على الإطلاق مع كل ما فيها من تدمير شامل لمفهوم دولة القانون، بينما حديثه عن التصدى للمتظاهرين والمعتصمين والبلطجية وحملة المولوتوف فيه قطعية وصرامة لا تتناسب أبدا مع هذا التجاهل والاستهانة بالقانون فى غير ذلك من الأمور.

 

السمة الرابعة أن الرئيس يبدو حتى الآن غير قادر على تجاوز فكرة أن كل المشكلات التى تواجه حكومته سببها الوحيد هو ما ورثه عن النظام السابق من فساد وسرقة وتجريف للكفاءات. دفاعه عن فشل الحكومة الحالية، وعن عدم الوفاء بوعوده الانتخابية، وعن تفاقم الأزمة الاقتصادية، يدور حول ذات المعنى. ومع التسليم بصحة هذا الطرح، إلا أنه كلما مرت الشهور والسنين فإن التحجج بما كان قائما يفقد وزنه ويتحول مع الوقت إلى «شماعة» تعلق عليها أخطاء جديدة وفساد جديد وفشل فى تحقيق أى تقدم أو نتائج ملموسة. حكم الرئيس مر عليه ما يقرب من ثمانية أشهر، وعمر حكومته تجاوز نصف العام. وبرغم أن هذه لحظات عابرة فى عمر الشعوب، إلا أن صبر الناس ينفذ سريعا وسوف يحاسبون رئيسهم وحكومته وجماعته بما لم يحققوه من نتائج وليس بما ورثوه من مشكلات ومصاعب.

 

وأخيرا فإن السمة الخامسة لخطاب الرئيس بوجه عام أنه، برغم تكراره لكونه «رئيسا لكل المصريين»، إلا أن تفاصيل وأسلوب حديثه ينضحون بعكس ذلك تماما، لأن تحليل مضمون ما يقوله يدل على أنه يتحدث معظم الوقت عن مجتمع قوامه الأساسى «المواطنون المثاليون» وهم رجال، مسلمون، أصحاء، متوسطو العمر، يعملون فى وظائف محددة ومستقرة، ويفكرون بشكل متقارب. أما باقى الناس رجالا ونساء بكل ما فيهم من تنوع وتعدد واختلافات ــ وهم الأغلبية الساحقة فى المجتمع ــ فضيوف أو شخصيات عارضة تظهر على المسرح بشكل عابر ولكن لا يفترض أن يكون لها أدوار رئيسية مهما كان عددها كبيرا. هذه بالذات سمة يصعب قياسها أو التدليل عليها بشكل ملموس، ولكن هنا يأتى عنصر الفطرة وتأتى قيمة قرون الاستشعار التى تمتلكها كل الشعوب، فتجد فى علامة أو إشارة بسيطة تعبيرا عن ظاهرة أكثر عمقا. والشعب المصرى لا تنقصه الفطرة ولا قرون الاستشعار، ولذلك أدرك سريعا أن تعبير «أهلى وعشيرتى» الذى استخدمه الرئيس فى خطاب مبكر كان تعبيرا ذا دلالة بالغة عمن يعتبرهم رئيس الجمهورية المواطنين الصالحين فى مجتمعه الضيق.

 

ختاما فلا أتصور أن ما يقوله رئيس الجمهورية منفصل عن أسلوب التفكير والتحليل السائد فى الحزب الحاكم أو فى مكتب الإرشاد، ولذلك فعلينا استيعاب هذه الدلالات والمعانى بشكل أكثر جدية مما يحدث الآن.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved