نصف الكوب الآخر

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الجمعة 26 فبراير 2016 - 10:50 م بتوقيت القاهرة

فى بلد يعانى بقسوة من أزماته فإنه يحتاج إلى تدبر أحواله وسبل الإفلات من أية فوضى محتملة تهدم بنيانه ومستقبله.


هذه مسألة سياسية تستدعى الانفتاح على كل رأى والاستماع إلى كل اجتهاد وفق القواعد الدستورية التى تضمن حقوق المواطنين وحرياتهم العامة.


التوافقات العامة مسألة حرية لا إذعان.


أخطر ما انطوى عليه خطاب الرئيس قبل سفره فى رحلة أسيوية طويلة أن رسائله تهدد بفداحة أية فرصة لبناء مثل هذه التوافقات.


لا يصح أن ترتهن الخطب الرئاسية لمشاعر اللحظة أو ما قد يرد على البال تحت ضغط الحوادث، فلكل كلمة معناها وحسابها وأثرها.


عندما وقف الرئيس على منصة مسرح الجلاء بدت أمامه حافظة أوراق سوداء غير أنه لم يطل عليها.


فضل الحديث المرتجل باعتقاد راسخ لديه إنه أكثر تأثيرا فى المشاعر العامة للمواطنين غير أن نتائجه انطوت على مطبات سياسية خطيرة.

المطب الأول، ما عدته وكالات الأنباء والشبكات التليفزيونية العالمية اعترافا رئاسيا مصريا بأن الطائرة الروسية أسقطت فوق سيناء بعمل إرهابى استهدف «ضرب السياحة والإساءة إلى العلاقات مع روسيا وإيطاليا».


الارتجال أضر دون أن يقصد بفرص عودة السياحة إلى عافيتها فى أى مدى منظور ووفر مادة ضغط جديدة على القرار المصرى بذريعة عدم توافر الأمن اللازم للاستثمارات الأجنبية وسلامة السياح قبل أن تتوصل جهات التحقيق لقول فصل فى أسباب سقوط الطائرة الروسية.


المطب الثانى، تبدى فى نفس الجملة بالإشارة إلى إيطاليا بعد روسيا، وهذا معناه توسيع نطاق الشبهات فى قضية مقتل الباحث الإيطالى «جوليو ريجينى» إلى ما يتعدى الرواية الأمنية التى تحصرها وفق بياناتها فى الاحتمالات الجنائية دون أن يكون واضحا من هو الطرف الذى سعى ونفذ ومدى الإصرار على تقديمه للعدالة أيا كان.


المطب الثالث، حديثه عن مشروعات لـ«تحلية المياه» استعدادا لأى احتمال يؤثر على المزارع المصرى بعد بناء «سد النهضة» الأثيوبى.
فى الاستعداد تحسب ومسئولية غير أن الكشف عنه مبكرا يوحى أن مصر أخفقت فى حفظ حقوقها التاريخية فى مياه النيل بينما المفاوضات مع أثيوبيا لم تصل إلى هذه النقطة.
المطب الرابع، إطلاق عبارات مثيرة نالت من صورته بفداحة فى مواقع غربية لدوريات كبرى مثل «لو إن فيه بيع مستعد أتباع».
بيقين هو يقصد أنه مستعد أن يضحى بحريته الإنسانية ويبذل حياته كلها فى سبيل ضمان سلامة بلاده.
المطب الخامس، إطلاق عبارات أخرى أراد أن يؤكد فيها قوة الدولة وعزمها على المضى فى بناء ما تهدم.
غير أن التعميم فى صياغتها أعطى صورة بالغة السلبية مثل «اللى هيقرب من مصر هشيله من على وجه الأرض».
فى التعميم احتمالات متعددة من بينها أن يكون القصد جهات دولية بعينها أو معارضيه المفترضين فى الحياة السياسية المصرية.
دعوته إلى «متسمعوش كلام حد غيرى» ترجح التأويل الأخير رغم أنها فى تأويل آخر قد تعنى أنه لا يخفى شيئا عن شعبه بينما آخرون قد يدلسون الحقيقة عليه.
فى الارتجال الانفعالى تتداخل المعانى على نحو يسقط التأويلات فى فخ النوايا.
بدت الصدمة كاملة فى عبارته «إذا لم تكن معنا اسكت من فضلك» كأننا أمام موجة اعتقالات جديدة توشك أن تعلن لمعارضيه السياسيين.
لم يكن ذلك قصده لكنه الارتجال.
فقد انطوى سياق الكلام على إشارة حاسمة إلى أنه لن تكون هناك إجراءات استثنائية وإشارة أخرى إلى ضرورة احترام الدستور فـ«العبث به عبث ببقاء الدولة».
باجتهاد ما يمكن تفسير درجة الحدة غير المعتادة فى الخطاب الرئاسى الأخير بثلاثة أسباب رئيسية:
الأول إنسانى، فقد ألقى خطابه دون أن ينم فى الليلة السابقة «لحظة واحدة» بحسب معلومات مؤكدة.
هو رجل يقول دائما إنه لا ينام لإثبات صدق عزمه على تجاوز الأزمات المتفاقمة التى تهدد «بقاء الدولة»، غير أن الحاجة لقسط معقول من الراحة من مقتضيات استعادة اللياقة والهمة وكفالة أداء مهامه بقدر أكبر من الحيوية والتيقظ.
الترجمة السياسية الأخطر أنه يعمل وحيدا تقريبا، بلا مساعدين أو مستشارين، يلتقى الوزراء ويناقش أدق التفاصيل الفنية دون أن يكون لهم فى أغلب الحالات حق التدخل فى صنع السياسة العامة.
ذلك يعنى ضيق النظام وغياب أى مفوضين سياسيين يتحدثون باسمه يتصرفون بحرية وفق سياسة عامة متفق عليها.
فى ضيق أى نظام مشروع توتر وقلق على مستقبله.
الثانى إعلامى، فهو يعتقد أن الصحف والفضائيات لا تعكس حجم العمل الذى يؤديه وانجازات البناء التى يقوم بها.
بمعنى أن العائد السياسى لا يتسق مع حجم العمل والإنجاز.
غير أن دور الإعلام إحاطة الرأى العام بالمعلومات الحقيقية للمشروعات التى تجرى وإجراء حوارات سياسية وعلمية حولها تؤيد ما يستحق التأييد وتناقش ما يستحق النقاش حول جدواه.
إعلام التعبئة استهلك زمنه وصلاحيته ولم يعد يصلح فى عصر السماوات المفتوحة وشبكات التواصل الاجتماعى وصخبها.
النظم تتقوى بقدر اتساع قنواتها السياسية وقدرتها على إدارة التوافقات العامة.
بذات القدر فإن اتساع القنوات الاجتماعية تساعد على التماسك الضرورى داخل أى مجتمع.
بحسب معلومات أولية تحتاج إلى تأكيد رسمى فإن خطة الحكومة لفرض أسعار اقتصادية على خدمات الدولة جرى التراجع عنها خشية ردات فعلها السلبية.
إذا صحت المعلومات فهذا تأكيد جديد على ضرورة النقاش العام حول التوجهات الاقتصادية والاجتماعية وانحيازات النظام الجديد.
لا يمكن فى أى نظر موضوعى تجاهل نصف الكوب الفارغ باسم «دعم النظام» ولا التقليل من أى إنجازات فى النصف الآخر الممتلئ.
ولا يعقل أن يوصف كل نقاش بالمؤامرة وكل اعتراض بالخيانة وكل مختلف بالانتساب إلى الطابور الخامس.
هذه اللغة لابد من استبعادها بالكامل، الاستغراق فيها عواقبه وخيمة.
الثالث أمنى، فالتقارير التى يتلقاها تبالغ بإفراط فى مدى الخطر الذى يحيق بنظامه على ما تؤكد مصادر سيادية سابقة.
للأمن أدواره الطبيعية التى لا يمكن أن تكون بديلا للسياسة ووسائلها فى خفض أية توترات محتملة.
تجاوز ما هو طبيعى يرفع منسوب التوتر العام باعتبار كل ما هو سياسى يتحرك أو يتكلم مشروع انقضاض على النظام.
بحسب القواعد الأمنية فإن وجود قدر من التوتر هو من طبيعة الأشياء فى كل النظم والأوقات.
إذا قلت نسبته فوق المعتاد فهذا يستدعى الحيطة والحذر من أن يكون هناك شىء غير طبيعى.
وإذا زادت معدلات التوتر العام فاحتمالات الخطر تتعاظم ولا سبيل لتجاوزه بغير السياسة ووسائلها.
ربما أراد الرئيس أن يوجه رسالة إلى جهات فى الدولة أنه قوى بما فيه الكفاية لردع أية تفلتات وأنه لا يمكن أن يسمح بـ«ضياع الدولة من يده».
بغض النظر عن الصياغات الملتبسة فإن هناك شيئا ما يجرى فى الكواليس أقرب إلى الصراعات على النفوذ وتوجهات القرار السياسى.
هذه الصراعات تعبير عن مراكز قوة جديدة خارج الشرعية الدستورية وجدت فرصتها فى الفراغ السياسى.
بوضوح كامل فإن غياب أى مسار سياسى يكاد يقوض أية فرصة لدولة مستقرة وحديثة قادرة على البناء ومواجهة أيام صعبة مقبلة.
لا يصح أن يمارى أحد فى ضرورة النظر إلى نصف الكوب الملىء بأى إنجاز أيا كان قدره دون إغفال النصف الآخر من الكوب وما ينطوى عليه من مخاطر.
فى الحالة الأولى لابد أن تكون الحيثيات واضحة وحرية إبداء الرأى كاملة، فالدعم بلا حرية نفاق.
وفى الحالة الثانية لابد أن يكون النقاش العام مفتوحا، فالقمع يخفى الحقائق ولا ينير أى طريق.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved