الحرب الباردة تعود شديدة بين أطراف عديدة
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 26 فبراير 2020 - 10:15 م
بتوقيت القاهرة
خلال أيام معدودة خرجت علينا أصوات من الشرق والغرب تجمع على أن العالم يعيش مرحلة لا يجد فيها ما يجمع عليه. تبالغ هذه الأصوات. هناك إجماع متفرق على قضايا ومسائل شتى. هناك مثلا أصوات فى الشرق كما فى الغرب وفى الجنوب كما فى الشمال تجمع على أن العالم يعيش أجواء حرب باردة. حروب عديدة وليست حربا واحدة. حروب أشد من حرب القرن العشرين وبين أطراف أكثر عددًا. من هذه الحروب الحرب الباردة بين الصين والولايات المتحدة. بدأ الإجماع يتكون متدرجًا حول تحليلات تنبأت بأن العلاقات بين الولايات المتحدة والصين مقبلة على توترات مآلاتها أن تصب فى حرب باردة. لم تكن الشواهد كثيرة ولكن ما أعلن منها عن وجوده حفّز على هذا الاستنتاج، وإن تأخر المحللون. تأخروا لأن الطرفين الأمريكى والصينى استطاعا على مدى ثلاثين عاما أن يقنعا الكثيرين بأن التعاون بينهما وبخاصة فى قطاعات التجارة وتبادل الاستثمار تطور مفتوح النهاية ولصالح الطرفين. اقتنعوا أن هذا التعاون وما حققه للدولتين لم يسبق أن عرفته سجلات تاريخ العلاقات بين الدول. بفضله، وأقصد بفضل هذا التعاون بين البلدين، تباطأ معدل انحدار القوة الأمريكية الأعظم وإن استمرت تنحدر، وبفضله تسارع صعود الصين من دولة على طريق النمو إلى قوة اقتصادية عظمى. بمعنى آخر بدت العلاقة بين الدولتين وقد اكتست رداء الاعتماد المتبادل، رداء لم يثبت يوما فى تجارب قريبة الشبه أنه يمكن أن يقود الطرفين نحو خصام أو شقاق فى أجل منظور، ولدينا فى تجربة العلاقة الصينية الروسية الراهنة خير شاهد على ذلك.
***
لم يميز العام الماضى إنجاز مهم على صعيد العلاقات بين الدول الأوروبية، وهذا فى حد ذاته محل إجماع آخر بين كبار المحللين وأكثرهم دراية بتفاصيل العلاقات. على العكس استمرت بارزة ومتزايدة علامات الضعف الأوروبى تجاه أمريكا وروسيا والصين. خذ الصين مثلا. نذكر للرئيس إيمانويل ماكرون أنه حذّر من عواقب استمرار الحال فى تطور العلاقات الأوروبية الصينية على ما هو عليه، فقال «لقد انتهت مرحلة السذاجة الأوروبية». صحيح أن هذا التصريح لم يحدث ما أحدثه تصريحه الذى شبه فيه الحلف الأطلسى بالعقل الميت، إلا أنه كان تعبيرًا صادقًا وصريحًا عن نوع الضعف الذى تدهورت إليه الجماعة الأوروبية فى علاقتها بالصين. لم يضع ما أراد قوله فى كلمات دبلوماسية كتلك التى صدرت عن السيدة آنجيلا ميركل عندما قالت «يجب علينا كأوروبيين أن نرى الصين منافسًا وشريكًا فى الوقت نفسه». لاحظ معى أن الدولتين الأقوى نفوذا فى أوروبا فشلتا فى الحد من توسع النفوذ الصينى إلى الحد الذى شجع الصين على التمييز بين دول أوروبية وأخرى عند الدعوة لعقد مؤتمرات صينية أوروبية. عقدت مثلا مؤتمرات لم يحضر فيها مع الصين إلا دول شرق ووسط أوروبا، بينما أفردت لدول غرب أوروبا وبخاصة ألمانيا وفرنسا مرتبة أخرى من اللقاءات، وكانت فى غالبيتها ثنائية.
لم يبتعد ماكرون أو ميركل عن الحقيقة فى تصريحاتهما عن حال أوروبا، وأظن أنه يتوجب علينا الاعتراف بأن عام 2019 لم يكن أفضل أعوام الاتحاد الأوروبى. ففى هذا العام انشغلت المفوضية بترتيبات إقامة قيادة جديدة للمفوضية. هذا الانشغال بالإضافة إلى مفاوضات بريكسيت وترتيبات الاستعداد لفوز المحافظين البريطانيين وصدمة خروج بريطانيا التى أصابت معنويات عواصم عديدة فى شمال ووسط أوروبا ومناورات الرئيس الأمريكى وحروبه التجارية الصغيرة، كلها وغيرها من التطورات الصعبة والمعقدة استهلكت معظم طاقة المفوضية الأوروبية. يكتمل الاعتراف بتفاقم الضعف الأوروبى وأسباب ذلك عندما نضع فى اعتبارنا واقع الارتباك السائد فى الحياة الحزبية الألمانية والتغير النسبى فى حجم وفاعلية نفوذ السيدة انجيلا فى الداخل الألمانى. دخل كذلك فى اعتبارنا أنه فى العام نفسه لم تكن أحوال فرنسا الداخلية أفضل كثيرا من أحوال ألمانيا أو إيطاليا. كل هذا وغيره لا يقلل من أهمية العنصر الروسى، وأقصد استمرار الضغط الروسى على كل المواقع الرخوة فى الوحدة الأوروبية، والتدخل المتصاعد من جانب روسيا فى الشئون الداخلية لدول أوروبا وبخاصة دورها فى تشجيع القوى القومية المتطرفة المتصيدة أخطاء النظام الديموقراطى الحاكم فى مختلف دول أوروبا الغربية.
***
إمبراطوريتان على طريق التكوين، إمبراطورية روسية تتكون للمرة الثالثة أو الرابعة خارج الحدود المعروفة لروسيا، وإمبراطورية صينية تتكون لأول مرة خارج الحدود الثقافية والتاريخية للصين التى نعرفها. لاحظنا كيف أن أساليب التوسع الإمبراطورى فى الحالتين مختلفة، كيف اختلفت الحالتان عن حالات تكوين الإمبراطوريات الغربية فى كثير من الأمور. أعرف مثلا ولا أظن أننى مخطئ، أعرف أن لا بكين ولا موسكو تحوزان معلومات ووثائق دقيقة ومدققة أو تخضع لتدقيق واف، وهى معلومات ووثائق عن أساليب حياة قبائل وأمم وشعوب فى منطقة الشرق الأوسط كتلك التى توفرت لدى وزارة المستعمرات البريطانية وما يشبهها فى هولنده وبلجيكا وفرنسا.
بمعنى آخر، يبدو أن قادة التوسع الإمبراطورى فى كل من بكين وموسكو وفى بعثاتهما فى ليبيا وبلدان الخليج لا يعرفون على وجه الدقة ما كانت تعرفه لندن بالاتقان الممكن عن أهم القبائل وشيوخها والصف الثانى من رجالاتها. التقيت مؤخرا خبراء من روسيا والصين يجيدون التحدث بلهجة عربية أو أخرى ولم أجد بينهم من يوازى فى سعة الاطلاع وعمق المعايشة أسماء لشخصيات ساهمت فى توسيع رقعة إمبراطوريات الغرب فى الشرق الأوسط. أجازف فأتصور شرقًا أوسط وقد انحسرت عنه «حضارته» الغربية وزحفت نحوه متآلفة فى عصر ومتنافسة فى عصر آخر تقاليد سلافية و«حضارة» آسيوية. ألم تأت هذه العبارة الأخيرة على لسان متحدث صينى كبير المقام فى مؤتمر الأمن الذى انعقدت دورته السنوية قبل أيام فى مدينة ميونيخ الألمانية؟.
اليوم ألسنا شهودا على إمبراطورية غربية أخرى تنحسر. أمريكا تنسحب من الشرق الأوسط ومن وسط آسيا، تترك الشرق الأوسط لروسيا ووسط آسيا تتركه للصين. الهند، فى رأيى، غير مؤهلة الآن لدور إمبراطورى، وبحسب إجماع فى الغرب وفى آسيا لن تتأهل خلال العقود المنظورة.
***
أتصور أن يكون عنوان وثيقة الدورة الحالية لمؤتمر ميونيخ قد خضع قبل إقراره لمداولات مكثفة. صحيح أنه عبر عن حقيقة واقعة وهى أن العالم يدخل ولأول مرة منذ الحروب الصليبية حالة «عالم بدون غرب»، إلا أن قليلين بين علماء السياسة والحضارة من الذين تعودنا على متابعة اجتهاداتهم أعطوا لهذه المرحلة القادمة من الصراعات الدولية ما تستحق من رهبة وتقدير فى دراساتهم وتصوراتهم. مثلا لا أظن أن أحدا منهم ربط ربطًا وثيقًا بين انحسار المكانة وانهيار الاستقرار (أو ما يمكن أن أطلق عليه استقرار الفوضى فى الشرق الأوسط) وبين ما ألمح به قادة أوروبيون عن انحسار تيار الحضارة الغربية أو عن «سقوط الغرب»، تلميحات رفضها السيد مايك بومبيو فى خطابه بميونيخ، وأظن أنه بهذا الرفض الساذج كما قدمه لم يقنع أحدا من الحاضرين.
***
بصفتى إنسانا يعيش فى وطن عربى، أسأل سؤالا من أسئلة كثيرة جديرة فعلا بأن نتداول فيها وفى إجاباتها. أسأل إن كنا جاهزين لمواجهة مشاق وكوارث التخلى عن تقاليد وأفكار الغرب وفوقها مشاق ومصاعب اعتناق مسيرة آسيوية أو سلافية بتقاليد وأفكار مختلفة، أم أن لدينا، نحن العرب، البديل الناجع. بديل نحن صنعناه وصقلناه، ثم خبأناه لهكذا أيام.