رثاء المدن


أحمد مجاهد

آخر تحديث: الأحد 26 أبريل 2009 - 5:25 م بتوقيت القاهرة

 يعد الرثاء واحدا من الأغراض الموضوعية الشهيرة فى الشعر العربى، وهو يقوم على البكاء على الميت وعد محاسنه. أما رثاء المدن فهو تنويع موضوعى جديد ظهر فى العصر العباسى، حيث يقول عز الدين إسماعيل إن المدينة فى العصر العباسى قد صارت تمثل كيانا له معنى ووجود فى نفوس أهلها، وإن أهلها صاروا تربطهم بها روابط كثيرة مادية ومعنوية، فتولد فى نفوسهم شعور إنسانى نبيل إزاء المدينة عبروا عنه فى صدق وحرارة عندما رأوا الخراب والدمار يحل بها، كأنهم فقدوا عزيزا لديهم.

وهكذا برز فى العصر العباسى إطار جديد للرثاء، وهو رثاء المدن. وقد كان جديدا بكل معانى الكلمة، إذ إن علاقة الإنسان بالمدينة لم تتوطد بالشكل الذى توطدت به فى العصر العباسى، كما أن المدن الإسلامية لم تشهد قبل هذا العصر ما شهدته بعض مدن العراق من الدمار والتخريب.

ويمكننا أن نستطلع فى جولة عاجلة مع ابن تغرى بردى سقوط بغداد الأول، فبعد وفاة هارون الرشيد عام 193هـ انتقلت الخلافة إلى ولده الأمين، لكنه فى عام 194هـ أمر بالدعاء لابنه موسى على المنابر بعد ذكر أخويه المأمون والقاسم، ثم أرسل إلى المأمون يسأله أن يقدم ابنه موسى على نفسه، فكان هذا أول الشرر والفتنة بين الأخوين. وفى عام 195هـ بدأ الصراع العسكرى فى العراق بين جيش الأمين وعسكر المأمون. واستمر الوضع على ما هو عليه عام 196 هـ وفيه خُلِعَ الأمين وبويع المأمون ببغداد ثم أعيد الأمين. وفى عام 197هـ استمر القتال الوحشى وحوصرت المدينة. وفى شهر محرم من عام198هـ قتل الأمين ببغداد وعلقت رأسه وطيف بها فى الشوارع وتولى المأمون الخلافة.

ويشرح الخضيرى أثر هذا الصراع الطويل على المدينة وأهلها قائلا: إن كثيرا من الدمار والتخريب قد لحق ببغداد نتيجة للحصار الذى ضربته جيوش المأمون على الأمين فيها، ثم نتيجة للحرب فى ميادينها وشوارعها، فلحق الناس من ذلك شرا كثيرا، لا على أيدى جنود المأمون وحدهم، بل على أيدى جنود الأمين كذلك، حيث كان قد اضطر إلى الاستعانة فى حربه بالعَيَّارين والشطار والمسجونين من أهل بغداد، فكان الشر الذى أصاب المدينة منهم أكثر مما أصابها من العدو المهاجم.

وكثيرة هى القصائد التى قيلت فى رثاء بغداد بذلك الوقت، وأطولها قصيدة أبى يعقوب الخُرَيْمى التى أوردها الطبرى فى 135بيتا، والتى يقول فيها بعد أن عدد محاسن بغداد قبل الحرب:

يا بؤس بغداد دار مملكة دارت على أهلها دوائرها
أين غـضــــــارتهـا ولذتهــا وأين محبورها وحـــابرها
يحـرقها ذا، وذاك يهدمها ويشتفى بالنهاب شــاطرها
وهناك أيضا هذا المقطع الدامى من قصيدة مجهولة المؤلف تقول:
بكيت دمـا على بغداد لمـا فقدْتُ غضارة العيش الأنيقِ
تبدلنا هــموما من ســـــرور ومن ســـعـة تبدلنا بضــــــيقِ
فقَومٌ أُحْــرِقوا بالنار قســـرا ونائِحَـــةٌ تنـوح على غـــريقِ
ومغتربٌ قريبُ الدار مُلْقى بلا رأسٍ بقــارعة الطــــــريقِ
توســط من قتالهم جــميعا فمــا يدرون من أى الفـريقِ

فحتى الشخص المغترب الذى لا علاقة له بالصراع ظن كل فريق أنه ينتمى للفريق الآخر، فكان جزاؤه قطع الرأس.

أما الشاعر العترى فيقول:

من ذا أصـــابك يا بغــداد بالعينِ ألم تكــونى زمـانا قـرة العـــينِ
ألم يكن فيكِ قومٌ كان مسـكنهم وكان قــربـهم زيْنــــا من الزينِ
صاح الغراب بهم بالبين فافترقوا ماذا لقيت بهم من لوعـة البينِ
اســتودع الله قــوما ما ذكـــرتهمُ إلا تحــدَّر ماء العين من عـينى
كانوا ففرقـهم دهــرٌ وصـــــدَّعهم والدهر يَصْدَعُ ما بين الفريقينِ

إن الشاعر يكشف فى هذه الأبيات عن حزنه العميق لما أصاب بغداد مدينة السلام من خراب، وما لحق بأهلها من موت، وأن الأسى قد وصل به إلى حد أن الدمع ينحدر من عينيه من تلقاء نفسه. ويرى عز الدين إسماعيل أنه من الطبيعى أن يتفجر رثاء المدن عن عاطفة إنسانية صادقة، إذ لم يدفع الشاعر إليه سواها، مما قد يكون فى رثاء الأشخاص من اعتبارات القرابة أو المجاملة الاجتماعية أو ما أشبه.
وأغلب الظن أن أبيات العترى السابقة قد أثرت فى الشاعر الأندلسى المجهول الذى وردت أبياته فى البيان المغرب لابن عذارى، حيث قال فى رثاء مدينة قرطبة:

ابك عــلى قـرطـــــبةَ الزيـنِ فقـد دهــتهــا نظـــرة العينِ
أَنْظَــرَهَــا الدَهْــرُ بأســـــلافِه ثم تقــاضــى جـــملة الدينِ
كانت على الغاية من حسنها وعيشــها المســتعذب اللَـيْنِ
فانعكـس الأمـر فمـا أن ترى بهـــــا ســــــرورا بيـن اثنـينِ
فاغــدو ودَعْـهَــا وسِـرْ ســالما إن كنت أزمعت على البينِ

وواضح أن الأبيات الأندلسية أضعف من الأبيات المشرقية، وإن كانت قد تأسست عليها. ويبدو الضعف سواء من ناحية الصور مثل أن الدهر قد منحها قرضا من السعادة طويل الأمد ثم طالبها برد الدين جملة واحدة. أو من ناحية الموقف أيضا حيث يبدى الشاعر فى نهاية قصيدته استعداده للرحيل عن قرطبة إيثارا للسلامة. وها قد رحلنا عن قرطبة منذ زمن طويل، ولكننا لم ولن نترك بغداد.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved