«السيرة الهلامية».. انتقام ساخر من فكرة «الانتقام»!

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: الخميس 26 أبريل 2018 - 9:20 م بتوقيت القاهرة

ضحكت كثيرا، وسعدت أكثر، بهذه المواهب الشابة التى قدمت على مسرح الطليعة رؤية مصرية صعيدية لمسرحية «هاملت» لشكسبير: خيال حاضر، ومحاكاة ساخرة parody للنص الشهير، ولكن من خلال شخصيات وتفاصيل صعيدية، وفرجة مسرحية شعبية، ربما يليق بها أن تقدم فى الميادين والشوارع، وكأنهم المحبظاتية، الممثلون القدامى، وقد بعثوا من جديد، بحركاتهم الكاريكاتورية، وبتفاعلهم مع الجمهور، وبكسر الإيهام، وبتذكيرهم الدائم لنا بأنهم يلعبون ويسخرون، وبأنهم يقدمون مسرحية ساخرة، عن مسرحية تراجيدية.

«السيرة الهلامية» كما كتبها الحسن محمد، وأخرجها محمد الصغير، من أمتع مسرحيات الطليعة، فيها جرأة التجريب والمغامرة، وفيها عناية كبيرة بعناصر العرض المسرحى تمثيلا وغناء وديكورا وإضاءة وموسيقى وغناء وتعبيرا حركيا.

«هاملت» الشخصية التراجيدية الأشهر، تتحول هنا إلى رجل بدين رفيع الصوت، يدعى هراس، طفل كبير يفترض أن ينتقم من عمه الذى قتل والده العمدة، ثم تزوج أم هراس.

لا يكتفى النص بـ«هاملت» واحد اسمه هراس، ولكن يخرج منه شخصان آخران: أحدهما يمثل جانبه المنتقم، وثانيهما يمثل جانبه المتردد، والاثنان يتحركان مع هراس البدين على المسرح، كل المشاهد المعروفة فى النص الشكسبيرى تخضع لألوان المجتمع الصعيدى، وفى عمق المسرح، فرقة موسيقية بالزى الصعيدى، تشارك فى المسخرة، ومجموعة من الخفر المعاصرين بالنظارات، يرسمون معالم اللوحات المتتالية، وسط تهكم متواصل فى كل الاتجاهات.

أذكى ما فى المسرحية أنها فطنت إلى أن «هاملت» أمير الدانمارك يمارس الثأر والانتقام التقليديين، ولكن على مستوى ملكى، وتيمة الثأر والانتقام هى التيمة الأشهر فى الدراما الصعيدية، والأشباح والمقابر وعمليات القتل من السهل إدماجها فى بيئة الصعيد، ورغم أن نص شكسبير تراجيدى بامتياز، إلا أنه حافل بالمفارقات والعجائب التى يمكن أن تعالج بشكل كوميدى، مثل الشبح الغامض اللحوح، والأم الخائنة، التى تظهر فى «السيرة الهلامية» كامرأة ضخمة شهوانية (لعب دورها ممثل رجل)، ومثل جنون أوفيليا، وبالطبع هناك تردد هاملت المثير للدهشة.

بكثير من الخيال، واللمسات الكارتونية، صارت الشخصيات والمواقف صعيدية هزلية: والد سنية (أو أوفيليا فى الأصل) يجمع بين دورى الأب والأم، وشقيقها لؤى يغنى الراب، والشبح يظهر بعباءة وأجنحة بيضاء، ويريد الثأر لأن زملاءه الأشباح يسخرون منه، وقتل الأب يتم بدس السم فى العسل، والمبارزة بالسيوف تتحول إلى تحطيب بدون شوم!

كل شروع فى تراجيديا، يتم إفساده بضحكة أو بعطسة أو بحركة أو بكسر الإيهام أو بجملة موسيقية، الأزياء ملونة مبهرجة، والحركة لا تهدأ، والانتقام فى النهاية من فكرة «الانتقام» ذاتها:

فالعم قتل الأب، والابن سيقتل العم، ليس هراس الذى فعلها، ولكن شخصيته المترددة، التى يؤديها ممثل له ملامح وجه شارلى شابلن، وعلى ملابسه علامة استفهام، وبقتل العم أخيرا، أصبح للشخصية المترددة أهمية درامية!

هناك لوحات كثيرة جيدة، الأداء الحركى أيضا مميز، لياقة الممثلين ومرونتهم كانت لافتة كذلك، الممثلون الذى لعبوا أدوار الخفراء شكلوا أجسادهم فى هيئات معبرة، فمرة يحملون شواهد القبور، ومرة يؤدون دور معزة أو ثور يجر ساقية أو طلمبة مياه، ومرة يرقصون ويغنون الراب، يتحرك الممثلون حركة تبدو عشوائية، ثم يعيدونها وكأن الشريط يعود إلى الخلف. هناك ارتجالات محدودة تتسق مع فكرة كسر الإيهام، ومع ضرورة التفاعل مع جمهور الصالة.

يبدو محمد الصغير مخرجا مميزا سواء فى خياله، أو فى ترجمته للنص على مستوى الحركة والإيقاع عموما، أو على مستوى نجاحه فى استغلال مساحة المسرح، أو فى ترجمة الطابع الكارتونى لكل شخصية على حدة، أو فى علاقتها مع الشخصيات الأخرى، كان يمكن التقليل من المبالغة الحركية لشخصية الأم، وربما افتقدنا صوت الربابة التى لا نتصور استحضار أجواء الصعيد بدونها، وكان يمكن دمج أفراد الفرقة الموسيقية بشكل أفضل فى العرض، وكان يمكن أن نرى فعلا عرضا للأراجوز بدلا من المهرج فى لوحة عرض الأراجوز، ولكن متعة الفرجة تحققت إلى حد كبير، والأهم من ذلك أن الحكاية قد ارتدت تماما جلبابا صعيديا؛ لأنها سيرة ثأر وانتقام وصراع على العمودية أو المملكة، لا فرق، والمسرحيات الشكسبيرية يمكنها أن تستوعب كل التجارب والمعالجات، الأصل موجود ومحفوظ، وكل فنان له حرية التجريب والتفاعل معه.

يمكن أن تستقبل التجربة على أكثر من مستوى: كتمصير كوميدى لمسرحية «هاملت»، أو كمحاكاة ساخرة لعمل تراجيدى شهير، أو بمنطق الانتقام من فكرة الانتقام بتحويل الثأر والمحرضين عليه والقائمين به وضحاياه إلى أراجوزات، أو حتى على مستوى الضحك والتسلية وأنت تشاهد عرضا شعبيا فيه الغناء والموسيقى وحركات السيرك، اختر ما شئت، فالمتعة مؤكدة، واللعبة تستحق أن تشترك فيها.

مفارقة أخيرة من خارج العرض: خرجت بعد مشاهدة «السيرة الهلامية» عن نص شكسبير، إلى «السيرة الهلامية» لميدان العتبة، حيث لا تعرف بالضبط من يبيع ماذا، ومن يشترى بكم، ولا تفهم أبدا «منين يودى لفين؟»، لعل عشوائية الميدان، وفوضى البشر، وضوضاء السوق، تلهم مسارح العتبة وكتابها ومخرجيها عملا جديدا ساخرا، يتسق مع المكان، وينتقم بالتهكم من الواقع، الذى فشلنا فى إصلاحه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved