«سطور ستة».. لا تحمي لبنان!
طارق فريد زيدان
آخر تحديث:
الجمعة 26 مايو 2023 - 8:00 م
بتوقيت القاهرة
فى لبنان بلد اللا أسرار، تسعى «دولة الظل» القابضة على قرار الدولة الرسمية إلى صياغة مفردات تتماشى مع اللحظة السياسية. لتضيف إلى شطارتها الخلاّقة فى تدوير الزوايا مهارة «السطور الستة» الشهيرة، فما هى قصتها؟
• • •
طار وزير الإعلام السعودى عبدالعزيز خوجة من الرباط إلى بيروت، على وجه السرعة، بأمر من الملك السعودى عبدالله بن عبدالعزيز الذى كان يقوم بزيارة رسمية للمغرب. كان خوجة، السفير السعودى الأسبق فى لبنان، أحد أعضاء خلية العمل السعودية المناط بها متابعة ملف الانتخابات النيابية اللبنانية التى جرت فى ربيع العام ٢٠٠٩، وأفضت إلى فوز فريق ١٤ آذار بأغلبية مقاعد مجلس النواب. الأمر الملكى إلى خوجة كان محصورا بمقابلة الزعيم الدرزى اللبنانى النائب وليد جنبلاط. لماذا؟
لم تكد تمر ثلاثة أشهر على صدور نتائج الانتخابات النيابية، حتى فجّر وليد جنبلاط قنبلة أعادت خلط التحالفات السياسية بإعلانه أن تحالف الحزب التقدمى الاشتراكى مع فريق ١٤ آذار كان بحكم الضرورة، ولا يمكن أن يستمر (٣/٨/٢٠٠٩). جاء تصريح الأب الروحى لفريق ١٤ آذار كالصاعقة على فريقه ورافعته العربية المملكة العربية السعودية.
وضع البعض هذا التحول الجنبلاطى فى خانة المزاجية والابتزاز السياسى. لكن الرادارات السياسية لزعيم المختارة لم تكن مُخطئة. استشعر الرجل أن طبخة ما تُحاك فى «دولة الظل»، برعاية سعودية ــ سورية، من دون أن يكون شريكا فى الحياكة والتفصيل.
وصل الموفد الملكى إلى مقر إقامة جنبلاط فى حى كليمنصو يوم الأربعاء (٥/٨/٢٠٠٩).
ومن بين لهيب الجو السياسى، بادر خوجة إلى السلام، مُستذكرا الزعيم الراحل كمال جنبلاط صديق الملك عبدالله بن عبدالعزيز. ثم مُذكرا كيف أن جنبلاط الأب كان يحترم حلفاءه. ليضع النقاط على حروف مهمته قائلا «يقول لك جلالة الملك عبدالله إن الأوضاع فى المنطقة حسّاسة جدا ولا تحتمل الخطأ».
يقرأ وليد جنبلاط جيدا ما بين السطور. استشعر نتيجة الانتخابات النيابية وكيف تقلّص حجم كتلته النيابية، فضلا عن خوفه الأكبر من القرار الظنى للمحكمة الدولية المعنية بقضية اغتيال رفيق الحريرى. يومها صدرت مقالات فى الصحافة الأجنبية (كندا وألمانيا وفرنسا) تُحوّل الاتهام من سوريا إلى حزب الله، وتلمح إلى أن هذا القرار سيُعرّض لبنان إلى هزة أمنية قد تتدحرج إلى حرب أهلية. وفى كلتا الحالتين، سيكون جنبلاط مُحرجا بالاتهام الداخلى، ما يُهدّد مساحة نفوذه الجغرافية المتداخلة مع المكون الشيعى، وبالتالى يُعرّض موقعه فى السلطة إلى الانحسار وربما الانقراض. تلقى خوجة كلام جنبلاط وتبريراته قبل أن يُعقب قائلا إنه لا يشارك جنبلاط هواجسه، شارحا له أن فوز فريق ١٤ آذار فى الانتخابات هو فوز له. ثم إن المحكمة الدولية لم تعلن قرارها الظنى بعد.. والأهم شبكة الأمان الداخلية والخارجية التى تريدها المملكة للبنان وهو حتما سيكون فى صلبها.
شعر خوجة بأن جنبلاط لم يقتنع بكلامه فأراد تلطيف الأجواء الملتهبة قائلا «مكانك ومكانتك محفوظان عند الملك عبدالله»، لكن جنبلاط كان متوجسا من مكانته المفقودة فى «دولة الظل»، مُدركا أن مكانته السياسية فى الخارج لن تسعفه فى الحفاظ على موقعه فى السلطة. هنا باح جنبلاط بوحا كبيرا مبديا خشيته من تقارب سعودى ــ سورى على حساب موقعه ومكانته السياسية. ردّ خوجة أن المملكة لا تزال تعتبره صديقا وحليفا برغم انعطافته، وأن الملك يحثه على مراجعة موقفه حرصا على مستقبل لبنان.
فى اليوم التالى، أطلق جنبلاط موقفا وضع فى خانة التراجع عن موقفه السابق. فقد أطلّ من القصر الجمهورى، بعد اجتماعه بالرئيس اللبنانى ميشال سليمان، معلنا وقوفه إلى جانب الرئيس سعد الحريرى، داعيا إلى مراجعة شعارات ١٤ آذار بالحد الأدنى. ما لم يقله جنبلاط هو أنه لم يتوقف عن رصد الحركة النشطة لبعض رموز «دولة الظل». استشعر مناخات بين عواصم إقليمية لا يتم وضعه فى أجوائها تتمحور حول تداعيات القرار الظنى للمحكمة الدولية. كانت قناعة جنبلاط قوية تجاه «دولة الظل» التى أقصته عن اتفاق ما تجرى حياكته بين الرئيس سعد الحريرى والأمين العام لحزب الله برعاية سعودية ــ سورية، مبديا خشيته من تكرار تجربة اتفاق الرياض (2005) الذى أُقصى عنه.
• • •
لم يكن جنبلاط يوما بعيدا عن «دولة الظل». ربما هو أحد المؤسسين لهذا النظام الموازى لجمهورية الطائف يدا بيد مع الرئيسين نبيه برى ورفيق الحريرى وغيرهما ممن ساهموا فى بناء سردية حكم لبنان فى «الحقبة السورية». استظل جنبلاط بالحماية السورية طوال عهد الياس الهراوى (1989 ــ 1995) وصار رئيسا رابعا، لا تتخذ «ترويكا» الحكم (الهراوى والحريرى وبرى) قرارا إلا بالتنسيق الكامل معه. هو يعلم جيدا أن آلية صناعة القرار فى لبنان تبدأ خارج الدولة وأحيانا خارج الحدود. وأن حجم المشاركة فى دولة الظل لها معياران: أولا، زعامة الطائفة. وثانيا، التحالفات بين زعماء الأحزاب (الطوائف). كل هذا وذاكرة جنبلاط ما تزال طرية إزاء أحداث ٧ مايو ٢٠٠٨ الدامية وما كان يمكن أن تؤدى إليه من خطر وجودى على الزعامة الجنبلاطية.. لأجل ذلك استشعر براداره السياسى أن ثمة طبخة ما أتاحت تكليف سعد الحريرى برئاسة حكومة ما بعد انتخابات العام 2009. أما الكلام عن شبكة الأمان الذى سمعه من خوجة فقد أكد له المؤكد.
وكان الحريرى قد كُلّف برئاسة الحكومة للمرة الأولى فى يونيو ٢٠٠٩ خلفا للرئيس فؤاد السنيورة. وقد سعى الرئيس المكلف بكل ما أوتى من قوة مدعمة باتفاق الطائف وممارسته واتفاق الدوحة الحديث الولادة إلى تشكيل الحكومة قبل أن يُعلن بعد ثلاثة أشهر وتحديدا فى سبتمبر ٢٠٠٩ اعتذاره عن التكليف. اعتذار كان عبارة عن مناورة كونه كان يدرك مسبقا إنه سيعاد تكليفه مرة أخرى، بحسب اتفاق «دولة الظل». أعاد رئيس الجمهورية ميشال سليمان بعد أيام تكليف الحريرى لينجح فى تشكيل حكومته الأولى.
وبين التكليفين الأول والثانى، عقد لقاء هو الأول من نوعه بعد حرب تموز ٢٠٠٦ بين سعد الحريرى والأمين العام لحزب الله. تم الاتفاق بين الرجلين على ما يعرف بـ«اتفاقية الأسطر الستة»، وجوهرها الآتى: يتوافق أركان «دولة الظل» على القرارات الحكومية قبل انعقاد جلسات مجلس الوزراء. عدم استخدام سلاح حزب الله فى الداخل. إسقاط القرارات الاتهامية الصادرة عن الدولة السورية بحق سعد الحريرى وثلاثين من فريق عمله. وأخيرا إلغاء مفاعيل المحكمة الدولية وقرارها الظنى محليا. تمت المصادقة على هذا الاتفاق ووضع موضع التنفيذ بمباركة سعودية سورية تحت مظلة «السين سين».
عدة محطات مفصلية حدثت بعد نجاح الحريرى بتشكيل الحكومة. لعل أهمها الزيارة التى قام بها رئيس الحكومة إلى دمشق فى ديسمبر ٢٠٠٩. زيارة جاءت ترجمة لتفاهم السين سين. ثم تلتها زيارة أولى وثانية للنائب وليد جنبلاط إلى دمشق فى أبريل ٢٠١٠، قبل أن يزور سعد الحريرى مجددا دمشق فى الثامن عشر من مايو من العام نفسه.
لم تكن فترة رئاسة الحريرى الابن الأولى سلسة بأى شكل من الأشكال. فقد طغت العراقيل الوظيفية والدستورية على آلية صناعة القرار فى «دولة الظل» فانعكست على حركة الحكومة وإنتاجها. ظل فشل الاتفاق الرباعى (٢٠٠٥) مهيمنا على العقل السياسى للنخبة الحاكمة. زد على ذلك مرض الملك عبدالله وسفره إلى أمريكا للعلاج وتسلل الأمريكيين من هذه الثغرة للضغط على الواقع السياسى اللبنانى من خلال المحكمة الدولية والقرارات الدولية ولا سيما القرار ١٥٥٩. كل هذه العوامل أضعفت خيار «السين سين». عاد الجميع إلى نواياهم المستترة. ذهب كل فريق من النخبة الحاكمة لتفسير فشل الاتفاق الرباعى من منظوره. فقد وضع فريق ١٤ آذار سبب الفشل عند استخدام حزب الله سلاحه فى الداخل يوم أحداث ٧ مايو ٢٠٠٨. أما فريق ٨ آذار فكانت وجهة نظره أن المحكمة الدولية وقرارها الظنى بالتحول من اتهام سوريا إلى حزب الله هو سلاح دولى مشهور فى وجه حزب الله. وتصريح النائب وليد جنبلاط الذى أعلن فيه بعد زيارته الرئيس بشار الأسد أن الاتهام لدمشق كان اتهاما سياسيا.. كانت هذه الهواجس حاضرة فى جميع اللقاءات التى تمت بين الرئيس سعد الحريرى وقيادة حزب الله.
• • •
ليس بالنيات فقط إدارة النخبة الحاكمة شئون لبنان الدولة. بل بقوة اتفاق الستة أسطر الذى سيواجه معارضة دولية لن ترضى عنه حتى بمظلة السين سين. هى مرحلة دقيقة من الصراع الإقليمى الذى كان يدور ويستعر. مفاوضات من خلف الستار بين واشنطن وطهران وبرعاية عمانية ظللت ساحات الصراع على كافة رقعة الشرق الأوسط. وقعت اتفاقية الستة أسطر كما سبقها الاتفاق الرباعى فى فخ تناقضات الإقليم. فأعلن موته عند أبواب البيت الأبيض فى مطلع العام ٢٠١١.
كان العام ٢٠١١ مكلفا جدا على الطبقة السياسية فى لبنان. هو عام تصفية الحسابات وإثبات النفوذ لـ«دولة الظل». فى هذه السنة، وصل تأثير فريق من «دولة الظل» اللبنانية إلى داخل المكتب البيضاوى فى واشنطن، عندما استقبل الرئيس الأمريكى باراك أوباما رئيس حكومة لبنان سعد الحريرى. وعلى التوقيت الزمنى لواشنطن وليس طهران أو الرياض أو دمشق استقال ثلث الوزراء المنتمين لفريق 8 آذار من الحكومة (زائد «الوزير الملك» عدنان السيد حسين من حصة رئيس الجمهورية)، لتؤدى هذه الاستقالات إلى فقدان الحكومة نصابها الدستورى واعتبارها مستقيلة.
فى المحصلة، عوّل الفريقان فى لبنان على إدارة ذاتية رديفة للإدارة الإقليمية. لم يذكّرهم أحد أن «لعبة الأمم« الأولوية فيها لحسابات «الكبار».. وإنما يُمكن أن توفره «السين سين» لـ«دولة الظل» يبقى ناقصا من دون ختم «العم سام».. بهذا المعنى، كانت «اتفاقية الستة أسطر» تعبيرا عن خلل مزدوج. خلل يحاول التوفيق بين تقارب إقليمى وتوافق لبنانى كلاهما مناقض لحقائق المنطقة والعالم.