مصر بين ثورتين وحركات التصحيح لإعادة المسيرة الوطنية

محمد نعمان جلال
محمد نعمان جلال

آخر تحديث: الثلاثاء 26 يوليه 2016 - 9:25 م بتوقيت القاهرة

ثورات الشعوب تعبر عن ثلاث حقائق الأولى أنها تعبر عن الحس والطموحات والآمال الوطنية للشعب بمختلف فئاته وقواه السياسية وطبقاته. الثانية أنها تعبر عن الحس الوطنى العام والمسيرة الوطنية للشعب المصرى بغير تمييز. والثالثة أنها تقدم رؤية للمستقبل وليس للماضى دون أن يعنى ذلك تجاهل الماضى أو الانغماس فيه وإنما الاستفادة من عبره ودروسه لبناء المستقبل.

والثورة فى المفهوم التقليدى عمل شعبى بعيدا عن القوة العسكرية ولكن من الناحية الواقعية فإن أى دارس لتاريخ الثورات يجد أن بينها وبين القوة العسكرية رباطا وثيقا فليست هناك حركة تغيير جذرى بدون تغيير النظام القديم ولا يمكن تغيير أى نظام فى المجتمع دون اللجوء للقوة العسكرية. ولكن هناك فارقا جوهريا بين الاستخدام المفرط للقوة لأهداف شخصية بحتة وبين تناغم وتفاعل القوة العسكرية مع المجتمع وطموحاته ومشاكله لأن القوة العسكرية فى أى مجتمع هى من الشعب بمختلف قواه الفاعلة والمعبرة عن طموحاته وآماله.

ولهذا عندما قامت الثورة الروسية أو الثورة الصينية أو ثورة مصر 23 يوليو 1952 أو ثورة مصر 25 يناير 2011 لعبت القوة العسكرية دورا مهما فى إطلاق المسيرة أو فى حمايتها. بل إن النموذج التقليدى للثورات وهو الثورة الفرنسية استمرت عشر سنوات (من عام 1789 إلى عام 1799) فى صراع دموى لولا أن نابليون بونابرت انقذها بعد مذابح روبسبير والاتجاهات المتطرفة فى تلك الثورة التى اتسمت بالعنف الشديد ونصبت المشانق للقيادات القديمة للوطن ولم تستقر الأوضاع فى فرنسا إلا بعد نحو مائة عام.

***

وعلينا أن نفكر بمنطق المستقبل وبمنطق قانون التغيير فى الفكر والسياسة والعمل وليس مثل بعض علماء السياسة أو بعض السياسيين الذين تربوا فى أحضان الفكر الغربى الذى يعيش تاريخه فى تناقضات عجيبة لا يرى ما يفعله بالدول الأخرى من جرائم واحتلال واستعمار عبر القرون. كما أن بعض منظرى سياساته وضعوا أفكارا غير دقيقة علميا وسار على نهجها كثير من مثقفينا العرب معصوبى العيون مغلقى العقول.

إن نجاح أى ثورة مرتبط بالاستعداد العسكرى واستخدام القوة إذا لزم الأمر ولذلك قال القرآن الكريم «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة» والغزوات الاسلامية من غزوة بدر حتى فتح مكة وما بعدها خير شاهد على ذلك.

ما أريد قوله إن ثورة يوليو 1952 جاءت كانقلاب عسكرى تقليدى وأطلق عليها قادتها الحركة المباركة ثم تفاعل معها الشعب المصرى والشعوب العربية بل وشعوب البلاد النامية لأنها عبرت عن آمالهم وطموحاتهم فى الحرية والاستقلال والعدالة الاجتماعية. ومن هنا ازدادت شعبيتها بإعلان قانون محاربة الإقطاع والإصلاح الزراعى وقانون التمصير والتأميم للقطاعات الاقتصادية الكبرى التى كان يسيطر عليها كبار الرأسماليين الأجانب وفى مقدمتها تأميم قناة السويس والقوانين الاشتراكية عام 1961 وأيضا مساندتها لثورات الشعوب العربية وشعوب أفريقيا والدول النامية من أجل الاستقلال الوطنى ومقاومة الاستعمار وبلورة نظريتها فى بناء المستقبل على أساس المبادئ الستة للثورة ثم ميثاق العمل الوطنى ثم بيان 30 مارس بعد الهزيمة لإصلاح عيوب الثورة فى ممارستها للسلطة رغم قيامها بالإنجازات المشهورة من خلال المشروعات الكبرى مثل السد العالى وبناء صناعات حديثة مثل الحديد والصلب والألومنيوم ومجانية التعليم والصحة وغيرها. ولكن الثورة كغيرها واجهت تحديات الانفصال 1961 والتآمر ضدها والعدوان الثلاثى عام 1956 والهزيمة الكبرى عام 1967 وأخذ جمال عبدالناصر بعد ذلك فى تصحيح المسار ولكن لم يمهله القدر.


***


وجاء بعده السادات ليأخذ على عاتقه استمرار المسيرة بأسلوب مختلف فقاد حرب أكتوبر المجيدة 1973 التى أعادت للجيش وللوطن وللعرب مكانتهم ومن هنا انطلق أصحاب النفط فى رفع سعره لاستعادة حقوق شعوبهم من الشركات الاستعمارية التى كانت تبيعه للغرب بثمن بخس ويحصل أصحابه على الفتات. وهكذا الثورة تصحح نفسها وأيضا الثورات كما يقول قانونها تأكل أبناءها عبر السنين.

ولو نظرنا لأى ثورة بما فى ذلك الثورة الفرنسية أو الروسية أو الصينية أو حتى الأمريكية نجد كثيرا ممن قاموا بها تنحوا أو تم تنحيتهم لاختلافهم مع القيادة التى أخذت تطور أساليبها لمواجهة التحديات التى لم تكن تدرك أبعادها عندما قامت فى البداية. ومن هنا جاء تصحيح السادات بحركة 15 مايو ضد من أسماهم مراكز القوى وتغييره لكثير من السياسات تماشيا مع التغيرات العالمية سياسيا واقتصاديا ومع نظرية الواقعية السياسية فى إدراك أبعاد العلاقات الدولية والإقليمية وهو ما لم يكن الثوار فى عام 1952 مدركين لأبعاده الكاملة الحقيقية والمفاهيم والمعلومات الحقيقية المتصلة بها.

للأسف أساء الرئيس مبارك لتاريخه لخضوعه لإرادة أسرته وحقا قال القرآن الكريم «إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم».

***

ثورة مصر 25 يناير 2011 جاءت بنفس النموذج حركة شعبية أيدتها القوات المسلحة وقامت بحمايتها ولولا ذلك لكان شعب مصر بين لاجئين وقتلى ومشردين والباقون يبحثون عن رؤية أو مخرج من خلال ممثلى الأمم المتحدة ولضجت منها الشعوب العربية والعالم بأسره لمواجهة مشاكلها ولتحولت لقاعدة للإرهاب تحت مسمى الإسلام ــ البعيد فى جوهره عن ذلك ــ وربما أصبحت مصر تابعة لهذه الدولة الإقليمية أو تلك تحت أطروحات إسلامية زائفة. فهناك نظم ثيولوجيَة لأحفاد القياصرة وأخرى ثيولوجيَة لأحفاد هولاكو وجنكيز خان وتمارس الإعدام لكثيرين من شعوبها ومفكريها وقضاتها وقادتها العسكريين بهدف فرض أنظمتها الديكتاتورية وطموحات قادتها الأبدية فى السلطة.

وثورة 25 يناير 2011 فى مصر كانت بقيادة نخبة من الشباب الوطنى الطاهر ولكن لم تتوافر له الخبرة السياسية أو الإدراك الكافى للسياستين الوطنية والدولية والتآمر الإقليمى. كما عانى من غياب الرؤية الشاملة والكادر السياسى الثورى والقوة العسكرية الداعمة والمساندة والقدرة على التعامل مع الأزمات ومواجهتها ولهذا تم اختطاف ثورته.

وكانت عودة الحركة الجماهيرية الشعبية عبر ما سمى حركة تمرد على مدى أربعة شهور تعمل علانية بين الجماهير وليس كعمل سرى. والحس الوطنى للقوات المسلحة هو نفس نمط تحركها منذ ثورة أحمد عرابى تعبيرا عن مطالب الشعب وآماله وهو نفس ما حدث فى 1952 وفى 25 يناير عندما رفضت القوات المسلحة توجيه بنادقها للشعب المتظاهر وهو ما حدث فى 3 يوليو 2013. وهذا هو السلوك الوطنى للقوات المسلحة المصرية.

هذه هى مصر بهويتها وعقيدتها الدينية المتسامحة الجامعة التى تحتضن كل أبنائها إلا الذين فى قلوبهم مرض وفى أعينهم عمى.

وبارك الله فى مصر وشعبها وجيشها وشرطتها وقضائها وقوتها الناعمة من علماء ورهبان وأساتذة وإعلاميين ومثقفين ما داموا يضعون مصر دائما فى قلوبهم ونصب أعينهم.

وتحية لشعب مصر العظيم صاحب التاريخ العريق والحضارة الإنتاجية التى خلفت آثارا لا مثيل لها والمسالمة إلا ضد من اعتدى عليها وعلى شعبها مثل الهكسوس والتتار وحلفائهم وأعوانهم واشباههم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved