لا نتغير

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 26 سبتمبر 2017 - 10:20 م بتوقيت القاهرة

وصلت مبكرا عن موعد الافتتاح. صادفت مرات حضورى فى السنوات الأخيرة هبوط الليل وتحذيرات رفاق السهر وأصدقاء الموقع من تشوهات فى أسفلت الشوارع ورخام الأرصفة المؤدية إليه والمحيطة به. دائما أتشبث بذكريات أيام عتيقة حين أحاطت بالمكان بساتين وحدائق وطرق كالحرير وأرصفة تتناثر فيها أرائك أنيقة، ودائما يتشبث الأصغر عمرا من الرفاق والأصدقاء بموقفهم، خذ حذرك فالدنيا تغيرت. أرد عليهم: نعم تغيرت وتتغير، ولكن هناك ما لا يتغير. 

***

تحت ضوء خافت منبعث من مصباح عظيم الارتفاع رآها تتقدم نحوه بخطى نشيطة على عكس خطاه المتسكعة. اقتربت منه وهى تهلل قائلة عرفتك ولم تعرفنى. أنا كنت الطفلة التى كانت تتلهف أحضانك. ما رأيتك مرة إلا وركضت نحوك لترفعنى إلى صدرك فألف رقبتك بذراعىَّ وأنهال على وجهك تقبيلا. إن نسيت تلك الأيام فلن أنسى لحظات اختلاط انتشائى بهلعى وأنت تلقى بى عاليا لتلتقطنى قبل أن تلمس الأرض قدماى، أو أنسى قعودى فوق قدميك ترفعنى معهما بساقيك فتكاد رأسى وسقف الغرفة يتلامسان وعيناك تبرقان سعادة ورضاء بضحكاتى وصيحات دلالى وهنائى.

أنت سافرت بعيدا وبتعبير أهل بلدنا سرعان ما تأهلت. وأنا كبرت وتخرجت وتزوجت وأنجبت بنين وبنات لينجبوا بدورهم فيصير لى حفيدات وأحفاد. تابعت من على البعد رحلاتك وأسفارك وبعض مغامراتك. قرأت لك وعنك. كنت دائما فى حياتى الحاضر الغائب. أصبحت دون أن تدرى المعلم وأحيانا الموجه وكثيرا ما ظهر لى فى أحلامى صوتك يهدئنى إن تخلت عنى أعصابى ويلهمنى إن تعثرت الحلول وتداخلت الأمور وتشابكت المشاعر والأحاسيس. أقضى ساعات ممتعة أتحدث مع أحفادى عنك. أحكى لهم عن اكتشافاتك العلمية والمناصب الدولية التى تقلدتها، وبين الحكاية والحكاية فاصل عن الطفلة التى كانت تتسلق الكنبة المجاورة للشباك ترتب لنفسها مكانا يطل على طول الشارع الممتد حتى محطة الترام. هناك بقرب الشباب أجلس فى انتظار نزولك من الترام. أراك تعبر الطريق فى اتجاه دكان على الناصية تشترى منه حلوى تخصنى وعلبة سيجارة تخصك ثم تمشى فى اتجاه بنايتنا ممشوق القوام ثابت الخطى، ومن حولك يمينا وشمالا أنظار «حريم الحى» معلقة بك وتحيات أصحاب المحلات تلقى عليك. أما أنا فالزهو يملأنى ويفيض. أنا الوحيدة التى سوف يتوقف أمام شقتها ليحملها بين ذراعيه لتحتضنه فى شوق بالغ وتغرق وجهه بالقبل وتمد يدها فى جيبه وتسحب قطعة الحلوى التى تخصها.

***

عقبت إحدى حفيداتى ذات مرة فقالت، أخالك يا جدتى تعيشين تلك اللحظات كما لو كانت واقعة بالأمس. هل تصدقين أنك وأنت تقصين علينا تفاصيل علاقتك بهذا الجار يحدث لنا أحيانا أن نسمع صوت الطفلة وليس صوتك يحل فيك. كدنا نقتنع أنك والطفلة لا تفترقان.

أراك فى حرج. أنت لا تذكرنى. غريب أمرك. هل تصدقنى إن قلت لك أنك لم تتغير. لا أبالغ بل أقسم لك أننى لا أبالغ. ألا تسأل نفسك كيف عرفتك من بين عشرات المارة وفى هذا الضوء الضعيف، وبعد مرور عشرات السنين. أنا أجيبك لو أنك سمحت لنا أن نجلس قليلا. لقد عرفت أنك تعرضت مثلى لعذاب آلام الظهر لسنوات عديدة وكلانا بلا شك وصلته نصيحة طبيب بألا يطيل الوقوف. تعالى نجلس هنا. لا تنظر هنا وهناك باحثا عن مارة يتعرفون علينا. أنا لا أبالى فأنت معى. أنت حق من حقوق طفولتى، ولن أتخلى عن هذا الحق تحت ضغط أى شخص أو قهر أية قوة على هذه الأرض. هذه يدك أسحبها لأسند عليها وأنا أصعد الرصيف. إنها اليد التى كانت ترفعنى منفردة لألمس بيدى الصغيرة حبات الكريستال المتدلية من الثريا. 

***

الآن أشعر أنك بدأت تذكرنى. قبضة يدك القوية على يدى الضعيفة أعلنت لى تجاوزك حرج اللحظة واستغرابك حكايتى معك. أيها الحبيب، حبيب طفولتى، عرفتك فور أن رأيتك. ليس فى المسألة سحر أو ادعاء أو مبالغة. سافرت وغبت طويلا. اختفيت من واقعى ولكنك بقيت فى مخيلتى. كنت جزءا حيويا من حقيقتى كطفلة بينما كنت أنا جزءا عابرا من حقيقتك كشاب متعدد الهوايات ثم المشاغل. لا أظن وأنا فى هذه المرحلة المتزنة من عمرى، أظن أننى لم أكن أحتل مكانا ثابتا فى خريطة أماكنك فى تلك المرحلة. أكرر لتفهمنى. عشت طفولة غنية بالحب والرعاية جعلتنى أنشأ فتاة ثم امرأة شديدة الاعتزاز بهذه المرحلة من حياتها. لم أفترق عن أحب عرائسى إلى قلبى. حاولوا يوم عرسى انتزاعها من غرفتنا فهددت بأن ألجأ إلى الاختيار، أى إلى فضيحة. قلت ولم يفهموا. قلت لا أحد فى الكون يستطيع نزع طفولتى منى. اتركونى أدبر التواؤم الضرورى بين طفولتى ومراحل نضجى. من فضلكم لا تضغطوا على الطفلة فى داخلى التى تقاسمنى حياتى. 

***

هكذا جعلتك وأنت مكون مهم من مكونات طفولتى تعيش معى فى واقعى المتغير. طورت صورتك الأصلية المحفورة فى عقل الطفلة. سمحت لشعر رأسك بأن يخف سنة بعد سنة. تركت وزنك يزيد ولكن إلى حد يتناسب مع مزاجى فى الرجال. تراءى لى ذات يوم أنك شكوت من آلام فى الظهر مثل معظم من يعمل فى مهنتك من الرجال. أضفت إلى حسابات الألم ومرض الظهر ما ترامى لى وآلمنى بشدة من أنك أصبت نفسك إصابة أحالت مرضك العادى إلى مرض مزمن. صورتك التى رسمتها لك فى مخيلتى كانت تتحرك مع كل عيد ميلاد احتفلت به وكل عملية جراحية أجريتها وكل دور جديد تبنيته فى عائلتك الضيقة ثم الواسعة. كنت حريصة كل الحرص على أن أراك فى كل مرحلة من مراحل حياتك مناسبا لدورك فى كل مرحلة من حياتى. كنت دائما الشخص نفسه، أستطيع أن أتعرف عليك بين ألف شخص أو بين مليون. 

هل فهمت يا حبيب الطفولة وشريك حياتى لماذا أقول وأصر على قولى إنك لم تتغير ولن تتغير، بالنسبة لى، ولى وحدى.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved