حتى لا يغرق العراق.. مرة أخرى فى حرب الطوائف والعناصر!

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الثلاثاء 26 سبتمبر 2017 - 10:20 م بتوقيت القاهرة

تتبلور مأساة العراق، أكثر فأكثر، مع افتقاد المرجعية العربية، بل وافتقاد الوسيط العربى المؤهل لأن يتفرغ لمعالجة موضوع الكرد من موقع الحريص على روابط الأخوة بين العرب والكرد، والعمل على تمتينها وإزالة الإشكالات التى قد تعترضها، لأسباب سياسية فى الغالب، وإن تسترت بذرائع عنصرية أو تاريخية أو بظلامة لم تجد من يعالجها.

ومن قبل، وحين أوغل الاحتلال الأمريكى للعراق فى تثمير تركة صدام حسين الثقيلة، التى زعزعت الروابط الطبيعية بين العراقيين، كشعب واحد له تاريخه السامى الواحد وأرضه الغنية الواحدة، فأقطع «الشيعة» الحكم ــ بشراكة ما مع الأكراد ــ لاستبعاد «السنة» أو تهميش دورهم، كمن ينقل الظلامة من الشيعة إلى السنة، حرصا على استمرار الخلل فى العلاقة بين أبناء الشعب الواحد.

وهكذا تبدلت مواقع السلطة طائفيا، من دون أن تتبدل وظيفتها فى تكريس انقسام العراقيين على المستوى الطائفى كما على المستوى العرقى.. وعمل الأمريكيون على تثبيت هذه الصيغة الشوهاء، بالزعم أن حضور الأكراد يجب أن يرضى السنة العرب، فهم منهم ومعهم مذهبيا وهم حريصون على توازن فى السلطة بين الشيعة والسنة. 

كان مما يسهل تمرير هذه المزاعم أن العراقيين فى أبأس حال: فثروات البلاد منهوبة (بما فيها مقتنيات المتاحف وجواهر إبداعات الماضى نحتا ورسما وكنوز الموروثات التاريخية، بما فى ذلك التماثيل ذات القيمة الفنية التى لا تعوض والتى دمرها – فى ما بعد وحوش «الدواعش»).

ثم إن من اختار الاحتلال الأمريكى لحكم «العراق الجديد» كانوا – بصفة عامة من «المغتربين» الذين هربوا من بطش صدام حسين، فاستقروا فى ملاجئ سياسية فخمة، ما بين الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وإمارات الخليج، أما الفقراء منهم – وبالذات جماعة «الدعوة» فقد استقرت غالبيتهم فى دمشق وتوزع بعضهم بين ضواحى بيروت الجنوبية وعمان.
***
هكذا ازداد الشرخ بين العراقيين عمقا، على قاعدة مذهبية، خصوصا وأن لهذا الشرخ أسبابا سياسية تعود إلى لحظة تأسيس «الدولة الجديدة» فى أرض الرافدين تحت رعاية الاحتلال البريطانى الذى كرسته معاهدة سايكس – بيكو بعد تقسيم «بلاد الشرق» بين الاستعمارين: الفرنسى (سوريا ولبنان) والبريطانى (فلسطين والعراق وإمارة شرقى الأردن التى نصب عليها عبدالله ابن الشريف حسين الهاشمى).. ثم جىء بالأمير فيصل، شقيق عبدالله من دمشق التى نصب عليها ملكا، قبل أن يخلعه الفرنسيون، ليكون ملك العراق.. مع استثمار الالتباس فى هوية الهاشميين الذى توحى تسميتهم بأنهم «شيعة» فى حين أنهم من «أهل السنة».

استنكف شيعة العراق عن الدخول إلى السلطة، فى موقع ملتحق، فى حين أن العروض التى قدمت إليهم كانت مجحفة.. وهكذا استمرت قيادة الحكم سنية طوال مدة الانتداب البريطانى، وحتى قيام الجيش بثورته فى 14 يوليو 1958.. ومرة أخرى استغل الالتباس حول «مذهب» الزعيم عبدالكريم قاسم (قيل إن أمه شيعية)، كما استفيد من حالة الفوران الشعبى لطمس الحديث عن الحكم الطائفى.. خصوصا وأن الصراع فى تلك المرحلة اتخذ بعدا سياسيا قاطعا فى وضوحه، تجلى أكثر ما تجلى فى التصادم المكلف بين قيادة جمال عبدالناصر (رئيس الجمهورية العربية المتحدة يومها) وبين عبدالكريم قاسم المحتضن آنذاك من الشيوعيين والدهماء من المستفيدين من السلطة.

كان حزب البعث فى العراق فى المعارضة، وكانت له شعبيته، خصوصا وأن «الطلاق» لم يكن قد حدث بين عبدالناصر والبعثيين، الذين كانوا يخططون لاستعادة الحكم فى سوريا (ولو بالانفصال عن دولة عبدالناصر التى أسهموا فى بنائها) أو فى العراق حيث كانوا يأملون أن يكونوا شركاء فأقصاهم عبدالكريم قاسم بشخص شريكه فى الثورة عبدالسلام عارف ومن معه.

بعد خمس سنوات من حكم عبدالكريم قاسم، أمكن لتحالف حزب البعث مع الجيش أن يسقطه، ليتسلم الحكم عبدالسلام عارف.. وبعد وفاة عارف تولى شقيقه عبدالرحمن عارف الحكم الذى كان قد غدا ضعيفا وفقد شعبيته.
بعد هزيمة الخامس من يونيو 1967، ومحاولات حثيثة من البعثيين للعودة إلى السلطة أمكنهم عقد تفاهم مع بعض كبار الضباط، ونجحوا فى قلب نظام الحكم بقيادة أحمد حسن البكر، فى 8 فبراير 1968 على أن يكون صدام حسين «السيد النائب» أى نائب رئيس مجلس قيادة الثورة.. وبعد فترة وجيزة، بدأ صدام تصفية «الشركاء» حتى استقر له الاستيلاء على الحكم، باسم البعث، مبقيا على البكر فى رئاسة الدولة (وهو من خئولته..).

***
فى منتصف عام 1970 أمكن الوصول إلى تفاهم مع الأكراد بشخص مصطفى البرازانى على صيغة فيدرالية لحكم مناطقهم تحت ظل القيادة المركزية فى بغداد.. لكن هذا الاتفاق لم يعمر طويلا، لأن صدام حسين انقلب عليه – كما يقول الأكراد ــ فشن حملة ضارية على الكرد فى مناطقهم تضمنت مجازر وتصفيات أشهرها مجزرة «حلبجة»، حيث استخدم صدام – فى ما ثبت بعد ذلك – القنابل الحارقة.

استمر حكم صدام حسين حتى الاحتلال الأمريكى للعراق فى العام 2003 تضمن خلالها حربا طويلة ضد الثورة الإسلامية فى إيران استمرت لسبع سنوات ثقيلة ومكلفة جدا.. ثم «غزوه الكويت» لاحتلالها التى استنفرت العالم كله، وهكذا نشبت الحرب الدولية الثانى ضد صدام حسين لإخراجه من الكويت، مع احتلال أجزاء من العراق (فى جنوبه).
ثم بدأ العراق يتدهور، دون أن يخفف صدام من قبضته البوليسية، ومن دون أن يعدل فى سياساته الداخلية سواء تجاه الشيعة أو تجاه الكرد.

وهكذا وجد الاحتلال الأمريكى للعراق وإطاحة حكم صدام حسين الأرض ممهدة.. فالشعب مدمر المعنويات، تفتك به الانقسامات الطائفية والعرقية، والجيش منهك ومشرذم نتيجة المغامرات العسكرية (7 سنوات من الحرب ضد الثورة الإسلامية فى إيران، ثم احتلال الكويت ومن ثم هزيمته فيها واضطراره للخروج منها مدحورا وخسارة استقلال العراق).
ذلك فى التاريخ.. أما فى الواقع فإن الاحتلال الأمريكى للعراق فى عام 2003 قد أجهز على الدولة فيه.. ثم أنه قد استغل خطايا النظام فأوهم الشيعة بأنه يريد التعويض عليهم بتسليمهم حكم العراق، مستفزا بذلك السنة الذين وجدوا أنفسهم، لأول مرة، خارج السلطة.

وعمد الاحتلال إلى استرضاء الأكراد عن طريق اشراكهم فى السلطة بأكثر من نصيبهم الطبيعى، مفترضا أن ذلك قد يعوض السنة.. لكن الكرد رفضوا هذه الصيغة وأصروا على الفيدرالية فكان لهم ذلك. وهكذا نالوا منصب رئيس الدولة، وبضع حقائب وزارية أهمها الخارجية والمالية ومناصب أخرى حاكمة.

***** 
يمكن القول إن «المظلومية» تكاد تكون هوية إضافية للعراقيين..

فالشيعة الذين كانوا «مظلومين » ومستبعدين عن السلطة منذ قيام الدولة فى عام 1920 حتى سقوط صدام حسين ودولته فى عام 2003، افترضوا أنه قد آن الأوان (بعد الاحتلال الأمريكى) لتحصيل الفائت من حقوقهم فى دولتهم.
والسنة الذين اتهموا بأنهم قد احتكروا السلطة، اعتبروا أن التهمة ظالمة، فمن احتكر الحكم طوال العهود الماضية، وحتى إسقاط نظام صدام حسين، كانوا جماعات معينة وليس عموم السنة، وإن كانت «التهمة» قد انسحبت على أهل السنة جميع.

بالمقابل فإن الكرد، بشخص زعامتهم المفردة الآن ممثلة بمسعود البرازانى قد وجدوا فى الوضع الضعيف فى بغداد فرصتهم للتعويض عن عهود الاضطهاد، مستفيدين من ضعف السلطة المركزية وانقسامها، وتضخم الفساد فى ظل «الحكم الشيعى» الذى لم ينتفع منه إلا بعض من تولوا السلطة وغرقوا فى الفساد فى حين ظلت المناطق الشيعية ترتع فى قلب الحرمان التاريخى.. متسببة فى تشويه صورة الشيعة، مكرسة الزعم بأنهم لا يصلحون للحكم.

وهكذا يمكن القول إن الحل فى العراق يجب أن يكون وطنيا جامعا، يتجاوز الطائفية والمذهبية والعنصرية، وإلا ضاعت الفرصة الذهبية المتاحة بعد القضاء على «داعش»، وبناء الجيش الوطنى القومى.

وكل ذلك يمكن أن يؤسس لوحدة وطنية جامعة تكون الركيزة الثابتة لحكم وطنى متوازن يضمن حقوق الشعب، بعناصره المختلفة، طائفيا وعنصريا، من أجل عراق جديد موحد وقوى وقادر على لعب دوره الذى لا غنى عنه فى بناء المستقبل العربى الأفضل.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved