الرئيس غير مقتنع

عبد العظيم حماد
عبد العظيم حماد

آخر تحديث: الإثنين 26 أكتوبر 2009 - 9:48 ص بتوقيت القاهرة

 ستبقى كل الأفكار والمبادرات المشغولة بتأمين المستقبل السياسى لمصر بعد الرئيس حسنى مبارك دائرة فى الفراغ، ما لم يقتنع الرئيس نفسه بالحاجة إليها.

ولكن الرئيس مبارك لن يفعل ذلك، ما لم يقتنع أولا بأن هناك مشكلة، أو أن هناك أخطارا على المستقبل تتطلب مبادرات من هذا النوع، والمؤكد حتى الآن أن الرئيس شخصيا، لا يتفق مع أصحاب تلك المبادرات، وغيرهم من الكتاب والمفكرين والناشطين السياسيين، وبل والمراقبين المهتمين بشئون مصر والمنطقة فى الخارج على أن البلاد فى أزمة حاليا، أو يمكن أن تكون فى أزمة فى المستقبل القريب، خاصة فيما يتعلق بمسألة خلافته فى منصب رئيس الجمهورية، ومن باب أولى ليست هناك أزمة فيما يتعلق بالاستحقاق الرئاسى المقبل بعد عامين من أيامنا هذه، والإجابة التى تكررت على لسان الرئيس مبارك وغيره من كبار رجال النظام أن الدستور ينظم هذه المسألة، وبالتالى لن يكون هناك فراغ دستورى، ومن ثم فلن ينشأ صراع سياسى من أى نوع.

إن هذه الهوة السحيقة بين إدراك جميع الأطراف فى المجتمع المصرى تقريبا ــ عدا الحكومة وحزبها ــ لوجود أزمة حاليا، وتخوفها من خطر مستقبلى، وبين الإنكار التام لوجود مثل تلك الأزمة، ولاحتمال ظهور مثل هذا الخطر من جانب القيادة السياسية وأركان الحكم هو من عجائب حياتنا الراهنة، وقد يكون من أعجب ما شهده التاريخ المصرى فى جميع عصوره، ولسنا هنا فى مجال الحكم على أى من هذين الرؤيتين بالخطأ أو الصواب، ولكننا نكتفى مؤقتا برصد ذلك التباعد الذى يشبه بعد المشرق عن المغرب بين إدراك النخب والرأى العام لوجود الأزمة، ولاحتمالات ظهور الخطر وبين إنكار الحكومة لوجودهما «الأزمة والخطر» وتسفيه كل من يقول بعكس ذلك، واتهامه بأبشع الاتهامات، ابتداء من الجهل، الغرض المريض، وحتى التأثر برؤى أجنبية، مع الاعتراف الخجول بوجود مشكلات هنا وصعوبات هناك كما يظهر فى أحسن الدول.

كيف تفسر وجود هذه الهوة السحيقة إذن؟.

رغم ما فى هذا السؤال من تحد لأكبر العقول، ورغم صعوبة الإجابة عنه، فإن الحزب الوطنى والحكومة لديهما تفسير واحد يتكرر فى كل مناسبة، وهو أن الحديث عن الأزمة والحاجة إلى إصلاحات سياسية جادة وجذرية تؤمن الانتقال من حكم الرئيس مبارك إلى من سيخلفه، ومن نظام سياسى شبه مغلق إلى نظام سياسى متعدد ومفتوح يسمح بتداول السلطات.. هذا الحديث هو لغو جماعات من المثقفين المرتبطين بعصور سابقة فى التاريخ المصرى أو أولئك المفتونين بمراكز الأبحاث الأجنبية، إلى جانب جماعات أخرى من الطامحين أو الساخطين لأسباب شخصية، وكل هؤلاء جميعا ليسوا إلا قلة قليلة «تسعهم سلالم نقابة الصحفيين عن بكرة أبيهم»، ودعك من المتطرفين الدينيين.. ودعك حتى من عموم أنصار الإسلام السياسى، لأنهم مرفوضون داخليا بوصفهم خطرا على الأمن القومى، ومرفوضون خارجيا لأنهم خطر على السلام والاستقرار الإقليميين والدوليين، أما الأغلبية الغالبة من المصريين، فهم فى رأى الحكومة غير مكترثين بكل هذا اللغو، لأن كل ما يهمهم هو رفع مستوى معيشتهم، وهو ما توليه الحكومة أعلى درجات الاهتمام من وجهة نظرها.

أما الفريق الآخر الذى يرى أن مصر فى أزمة، وأن مستقبلها محفوف بمخاطر جسيمة، فهم يقدمون عدة تفسيرات لإنكار الحكومة وجود الأزمة من الأصل، واطمئنانها الكامل للمستقبل، أول هذه التفسيرات أن الإنكار هو أسهل الطرق للتهرب من استحقاقات حل الأزمة، وتوقى الخطر، والتفسير الثانى هو أن الرئيس مبارك لا يرى ولا يسمع إلا المقربين الذين لا يقولون له إلا ما يجب أن يسمعه، ويرى فريق ثالث أن هذا الإنكار المستمر هو جزء من خطة توريث منصب رئاسة الجمهورية إلى نجل الرئيس الأستاذ جمال مبارك، وبذلك فإن الخلافة، والمستقبل هما من اختصاص الحزب الوطنى بوصفه حزب الأغلبية الآن، وفى المستقبل، أما التفسير الرابع فهو الذى يتبناه منذ بعض الوقت الأستاذ عماد الدين أديب، وهو عدم وجود صياغة قانونية، وعدم وجود عرف أو تقليد سابق بتوفير مخرج آمن للرؤساء وأسرهم من الملاحقة القضائية، ويمكن أن نضيف إلى ذلك عدم وجود مخرج آمن أيضا من التشهير الإعلامى.

من المحتمل أن يكون بعض هذه التفسيرات صحيحا، وقد تكون كلها صحيحة، ولكن هل هى كافية لتفسير تلك الأعجوبة المتمثلة فى إجماع جميع قوى النخبة على وجود أزمة حالية، والخوف من خطر مستقبلى من جهة، وإنكار الحكومة وأركانها بوجود شىء من هذا القبيل إنكارا تاما ونهائيا من الجهة الأخرى؟.

قبل الإجابة يتحتم الآن على كل منا أن يحدد موقفه، فهل هنا أزمة؟، أم أن كل الحديث عن وجود أزمة ليس إلا لغطا واختلاقا؟

يقول المثل الشعبى المصرى: إن لم يشك العليل فإن حاله يدل عليه.. والحال هنا ليست مظهرا عابسا فى الطرقات، أو اعتصاما عماليا هنا أو هناك، أو شجارا طائفيا فى هذه القرية أو تلك.. ولكن حال العليل هو بالضبط هذه الهوة السحيقة التى نتحدث عنها بين إدراك النخبة ومن ورائها الرأى العام، وبين إدراك الحكومة، وإذا افترضنا أن الحكومة هى صاحبة الإدراك السليم، وأن مصر ليست فى أزمة، فإن استمرار شعور النخبة والرأى بها يعد فشلا مروعا لهذه الحكومة، ولأية حكومة فى الدنيا، فمهما تكن الإنجازات والنجاحات، ومهما تكن كبيرة درجة اقتناع الحكومة بإصلاحاتها السياسية، وسعادتها بها، فإن خسارتها لثقة النخبة والرأى العام تكفى للحكم باطمئنان بوجود أزمة خطيرة، غير أن المؤشرات الإحصائية على ندرتها تكفى للقول بأن رؤية الحكومة هى الخطأ، فما جرى فى انتخابات عام 2005، وفى الانتخابات الرئاسية بعدها، وفى كل انتخابات فرعية جرت بعد ذلك يؤكد يأس المواطنين من العملية السياسية، فهل هناك مؤشر فى أى مجتمع حديث أبلغ من تدنى نسب المشاركة إلى العشرين فى المائة أو أكثر قليلا؟

وتقول الإحصاءات ــ حسب دراسة أخيرة لوزارة التنمية الإدارية ــ أن 75% من المواطنين يشعرون بأن الدولة ظالمة، ويسجل تقرير المركز المصرى للتنافسية أن مصر هبطت إلى المرتبة 134 بين دول العالم فى كفاية سوق العمل، أى فى التعليم والتأهيل المهنى.. وهى المرتبة الأخيرة بلا فخر، وهذه عينات فقط.

ثم إن عدم تنفيذ التعهدات الواردة فى برنامج الرئيس مبارك الانتخابى حتى الآن هو الآخر دليل على وجود أزمة، فلو لم تكن هذه الأزمة قائمة ومستحكمة لما استمر العمل بحالة الطوارئ التى تعهد الرئيس بإلغائها، ولو لم تكن هناك أزمة لكان قانون الانتخابات الجديد قد صدر، ولكان قانون الحكم المحلى الجديد قد صدر هو الآخر، أما وأن ذلك لم يحدث، بل إنه ليس واردا على جدول أعمال مؤتمر الحزب الوطنى كما قلنا هنا فى الأسبوع الماضى، فإن ألف باء التحليل السياسى تعنى أن هناك أزمة.. وأزمة كبيرة.

هل تذكرون أن السيد عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية كان يرفض دائما الرد على أى سؤال حول الأوضاع الداخلية فى مصر، ولكن أخيرا قال لـ«الشروق» ضمن أشياء عديدة إن مصر تعانى من خلل واضطراب. «فهل عمرو موسى الذى قال أيضا إنه تربطه بالرئيس مبارك علاقة رصينة لا تخلو من مودة»، هو من المنشقين الواقفين على سلم نقابة الصحفيين، وليس موسى وحده الذى يقول هذا الآن، بل مسئولين كبار يقولون مثل ذلك إما فى أحاديثهم الخاصة، وإما علنا بعد أن يتركوا المنصب.

خلاصة القول إن الأزمة قائمة ومحتدمة بالفعل، وأن الخوف من المستقبل له ما يبرره أكثر بكثير من الاطمئنان على ما بعد الرئيس مبارك، فلماذا إذن تنكر الحكومة؟، هنا نعود إلى السؤال الذى أرجأنا الإجابة عنه، وهو هل تكفى التفسيرات السابقة لأسباب إنكار الحكومة وجود الأزمة من الأصل؟

واقع الأمر أن القول بالتهرب أو التوريث أو عدم وجود المخرج الآمن لا تكفى، وإنما لابد أن نضيف إليها التراث السياسى لقادة نظام يوليو 1952، وتحليل هؤلاء القادة لأسباب قيام تلك الثورة، مع الاعتراف بوجود فروق فردية وسياسية كبرى بين قادة يوليو الثلاثة الذين نتحدث عنهم، أى عبدالناصر، والسادات، ومبارك، يتلخص التراث السياسى ليوليو فى أن الشعب المصرى لأسباب عديدة غير قادر على فرض ما يريده على السلطة الحاكمة، أو تغيير علاقات القوى داخل السلطة، وبين السلطة والمجتمع، ولو كان الشعب قادرا على ذلك لما كانت الثورة، ولما كانت هناك حاجة إليها أصلا، فهذا الشعب ظل فى حالة ثورة على الملك والأحزاب من عام 1946 حتى عام 1952، وكانت السلطة فى الأشهر الأخيرة السابقة على قيام الثورة «مرمية فى الشارع»، على حد تعبير الأستاذ هيكل، ولكن أحدا لم يتقدم لأخذها بمن فى ذلك حزب الأغلبية «الوفد» وزعيمه (زعيم الأمة ووكيلها الأمين النحاس باشا)، وكان الضباط الأحرار هم الذين تقدموا، وقد حدث مثل ذلك فى تولية محمد على نفسه، وكاد الضباط يستولون على السلطة فى ظروف أزمة مماثلة بقيادة أحمد عرابى لولا الاحتلال البريطانى.

وباختصار فإن التراث السياسى لثورة يوليو ينص على أنه ليس فى المجتمع المصرى قوى منظمة متعادلة أو متوازنة يمكن أن تحقق له الاستقرار السياسى وتحفظ أمنه القومى دون دور حاسم لمؤسسة وطنية منضبطة، ويمكننا هنا أن نتذكر عبارة وردت على لسان الرئيس مبارك منذ بضع سنوات، يرد على سؤال حول إمكانية تركه لقيادة الحزب الوطني؟ فقد رد الرئيس قائلا: انظروا إلى تاريخ مصر قبل الثورة، وإلى عدم استقرار الحكومات، لتعرفوا أن مصر فى حاجة إلى حزب أغلبية كبير كى لا تعود إلى حالة الفوضى التى كانت عليها، وما الحزب الكبير هنا إلا الغطاء السياسى لما يسمى بالقوة الصلبة التى استند ويستند إليها قادة يوليو.

إذن الرئيس مبارك يخشى على مصر من الفوضى إذا استجاب للقائلين بوجود أزمة تتطلب حلا، على طريقتهم، وهؤلاء يخشون من فوضى إذا لم يعترف الرئيس بوجود هذه الأزمة ويسارع بحلها.. أرأيتم كم هى الهوة سحيقة وشاسعة؟

هذه هى الحلقة المفقودة فى كل الأحاديث عن المستقبل السياسى لمصر، وفى كل التحركات الساعية نحوه، فمن يقنع من؟

الإجابة الأخيرة هى أن قوة الرفض وقوة الفرض متعادلتان تقريبا. وهذا هو الجمود بعينه، فإذا تفوقت إحداهما على الأخرى، فسوف يتغير المشهد كلية، وهذا مستبعد، لأن قوة الفرض استخدمت أقصى ما لديها من وسائل، فى حين أن قوة الرفض مشتتة، ولكن ليس من المستبعد أن يؤدى التوازن إلى التوافق بدلا من الجمود.. وهنا قد يبرز دور الفرد فى التاريخ، أو علينا الانتظار حتى تستجمع قوة الرفض شتاتها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved