انتحرت... لى (1)

حسام السكرى
حسام السكرى

آخر تحديث: الأحد 26 أكتوبر 2014 - 8:56 ص بتوقيت القاهرة

انتحرت.. طفلة فى الصف السادس الابتدائى تنهى حياتها خوفا من مدرس كان يضربها. شكته لأبيها فقال «علشان تبطلى لعب وتذاكرى».

أشعر بألمها وحيرتها ويأسها وعجزها لأننى ذقتها كلها واعتصرتنى مرارتها. أحس بها لأننى كنتها. انتحارها أحيا المشاهد الميتة.

أجلس فى نهاية الفصل. أمسك كراسة الحساب وأفتحها بيدين مرتعشتين. مساحة الصفحات البيضاء قسمتها خطوط زرقاء باهتة إلى مربعات كبيرة. تتراص الأرقام التى كتبتها كبيرة وواضحة على السطور. تقترب أبلة عنايات، وفجأة تصفعنى على وجهى وتصرخ باستنكار: «حد يكتب الأرقام على السطر؟ الأرقام بتتكتب فى وسط المربع يا حمار». تستدير وتعود إلى مقدمة الفصل. أتساءل فى نفسى: «وكيف لى أن أعرف؟ لم يخبرنى أحد». أخاف أن تسمع أفكارى فأتوقف. تسيل الدموع على خدى فى صمت.

فى المنزل أجلس أمام كراسة الواجب. أتذكر أبلة عنايات. وهى تقول بصوت عال: «حسن خطك انت وهو». أخرج المبراة. أبرى قلمى الرصاص. أشك خدى. أشعر بوخزة وألم خفيفين. أطمئن وأعاود الكتابة بخط دقيق. فى الفصل أفتح كراستى وأضعها على الدرج. تمر فتاتان صبوحتان طلبت منهما المدرسة اختيار كراسات المجيدين لعرضها عليها. تنظر فتاة إلى كراستى. تندهش من دقة الخط. تنادى زميلتها فى انبهار. تبتسم الفتاتان وتحمل إحداهما الكراسة بأناملها الرقيقة. تدخل أبلة عنايات إلى الفصل. تجرى الفتاة نحوها. «أبلة.. أبلة.. بصى الكراسة دى». تقلب المدرسة الصفحات وهى تسأل: «كراسة مين دى؟» ترد الفتاة: «حسام يا أبلة». تمسك المدرسة الكراسة بحسم وتطيح بها بكل قوة فى اتجاهى. تصفع الكراسة وجهى ثم تسقط على الأرض. انحنى لأرفعها. أجلس فى صمت.

«أحب أبلة عنايات» جلست فى المنزل أكتب الجملة. أكرر كتابتها مرة بعد مرة وأنا أقاوم النعاس. جفونى تتراخى رغما عنى. تمر أختى عزة التى تكبرنى بخمس سنوات وتقول: «ده كتير قوى. هتكتبها كام مرة؟».. أجيب: «مئة مرة». تسحب الكراسة من بين يدى وتبدأ فى كتابة الواجب عنى. أروح فى النوم بينما هى تكتب فى همة.

«تعال هنا وهات كراستك».. أخرج متثاقلا بين الدكك. أقف إلى جوارها فى رعب. تمسك الكراسة. تدخل مدرسة أخرى من فصل مجاور. تلمحنى واقفا وتبتسم «أمور قوى الواد ده». أبلة عنايات لا تعقب. تتبادل معها الحديث. تفاجئنى بصفعة على وجهى دون أن تفتح الكراسة. يداهمنى شعور مفاجيء بالذعر. أعجز عن مقاومة الرغبة فى التبول. يسيل. أشعر بحرارة حارقة على ساقى. تنظر المدرسة الزائرة إلى صديقتها فى دهشة «ليه كده؟». أسمع صوتا حاسما وآمرا. «امش ارجع الدكة بتاعتك».

الصباح. ميعاد المدرسة. أرتعش وأتصبب عرقا. تقترب والدتى وتحتضننى فى حنان. تضع يدها على جبهتى. أشعر بخشونة حانية. «مالك يا حبيبى؟» غصة فى حلقى تعجزنى عن الكلام. تكرر سؤالها. «مش عاوز تقول لى؟» تسيل دموعى وتخرج الكلمات من بين شفتى خفيضة. «أبلة عنايات بتضربنى». دموعى تسيل. أخاف أن تسمعنى أبلة عنايات. أخاف أن تعرف أننى بحت. الكبار يعرفون كل شيء.

تمر الدقائق ثقيلة فى الفصل. يطل وجه طفلة من فرجة الباب «أبلة الناظرة عايزة حسام السكرى». ينقبض قلبى وأنا أسمع صراخ أبلة عنايات: «امشى روح للناظرة.. شوف عملت إيه».

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved