فى مدح كرة القدم!

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: الخميس 26 أكتوبر 2017 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

أشعر بدهشة حقيقية من آراء ما زال أصحابها ينظرون باستعلاء إلى كرة القدم، ثم يفلسف البعضُ القضيةَ باعتبار الكرة أفيون الشعوب، ووسيلة الأنظمة الحاكمة فى الدول الفقيرة لإلهاء الناس، وتعويضهم عن نكساتهم الوطنية، وكأن دولا غنية تحقق انتصاراتٍ فى كل المجالات، لا تحتشد خلف فرقها الكروية، ولا تتوقف فيها الحياة أثناء المباريات المهمة.
تبدو هذه الآراء، بالنسبة لى، من ميراث القرن العشرين الغابر، لا تلتفت، ولو قليلًا، إلى تحليل أعمق لهذه اللعبة كظاهرة اجتماعية واقتصادية وإنسانية تلخص دلالات كثيرة، ولا تعترف بدور كرة القدم الإيجابى الكاسح سواء على مستوى الأفراد أو المجتمعات، ولا تتوقف أمام تفاصيل اللعبة، وقوانينها، وطقوسها، كجزء أساسى من ثقافة القرن العشرين.
سأحكى عن تجربتى الشخصية: رغم أننى توقفت عند مرحلة الكرة الشراب فى الشارع، أو فى فناء المدرسة، ورغم أن ما كنا نلعبه ينتمى إلى ما يُسمى بالتقسيمة المحدودة، أو الكرة الخماسية باللغة المعاصرة، فإن ما تعلمته من خلال هذه المباريات، ظلَّ أثرُهُ عميقا فى شخصيتى، فقد تعلمت، بعد طول معاناة، كيفية السيطرة على مشاعرى، وكيفية إدارة نفسى فى الملعب، تعلمت معنى احترام الخصم، وضرورة تقبّل الهزيمة، وأهمية روح الفريق، وما زلتُ أعتقد أن أسهل وسيلة لكى يتعلم الجيل الجديد هذه الأمور هى الممارسة الصحيحة للكرة؛ لأنها تجربة عملية مباشرة، وليست مجرد عبارات إنشائية تلقى فى حصص التعبير، أو تقرأ فى حصص القراءة.
مباراة كرة القدم، لو تأملت، يمكن أن تنقل إلى الطالب معنى الدراما: البداية والوسط والنهاية، كل مباراة لها أبطال، وكلما كان الطرفان متكافئين زاد الصراع، وصولا إلى ذروة وتأزم كما حدث بعد هدف الكونغو، ولا يمكن الوصول إلى النهاية السعيدة، إلا بهدف الفوز، على طريقة محمد صلاح، الممثلون هم اللاعبون، والمخرجون هم المدربون، والجمهور يحيط خشبة المسرح من الجهات الأربع، والملايين يتفرجون أيضا أمام الشاشات.
شرح لنا الراحل محمد لطيف يومًا فى تعليقه على إحدى المباريات أن الكرة ليست سوى حربٍ مصغّرة، ولكنها بدون قتلى ودماء، ووفقًا لقانون صارم، يطبقه حكم محايد؛ أى إنه من خلال الكرة يمكن تعلم فكرة احترام القانون، والعمل الجماعى، واحترام الجمهور، والاحتفاء بالموهبة الفردية الاستثنائية، وترويض طاقة العنف والقوة الغاشمة.
تجمع كرة القدم بين الساحة الواسعة، والمرمى الضيق، يركض اللاعبون مثل متسابقى ألعاب القوى، ويطير حارس المرمى فى مرونة ورشاقة لاعب الجمباز، وينافس فى رمياته وصداته لاعبى كرة اليد، ويقفز لاعب كرة القدم عاليا فيذكرنا بلاعب كرة السلة، ويصطف لاعبو الدفاع معًا على خط واحد، فيوقعون المهاجم المنافس فى مصيدة التسلل، يخرجونه من اللعب، مثلما يفعل لاعب الشطرنج، عندما يطيح بقطعة من جنود خصمه، يجعلها خارج اللعب والرُقُعة، كرة القدم لعبة العقل والمهارة، مثلما هى لعبة الالتحام والقوة.
لن أنسى أبدًا كيف تخصصتُ فى إعداد الكرة الشراب، كل واحد يأتى بجزء من الأغراض: بالونة، ودوبارة، وخرقة قماش، وجورب، تعلمت أن تكون البالونة مستديرة تمامًا، أضيف حولها الخرقة، ثم أبدأ فى حبك الدوبارة بعناية، أحافظ دوما على الشكل المستدير، ثم أدخلها فى الجورب، وأقوم بتخييطها، سعادتى وقتها لا توصف بإطراء اللاعبين، بدأت صغيرًا كحارس مرمى، ثم اجتهدتُ لكى أكون مهاجمًا أو «محاورًا» كما كنا نطلق عليه، عندما اعترفوا بى، أدركتُ أننى كبرت، صرت فى قلب الملعب، بعد أن تعلمت مهارات إضافية، أدرك الآن هذا المعنى، وأدين به لكرة القدم.
لا تلوموا الكرة، ولكن وجهوا اللوم لأنفسكم؛ لأنكم تركتم الشباب يتعلمها بطريقة خاطئة، تركتموهم لمن استغل طاقتهم فى اتجاه التعصب، أنتم محوتم الرياضة من المدرسة، فصارت لقيطة بلا رعاية، وأفرزت كل التشوهات والكوارث. نحن لم نعلّم أحدًا فى مدارسنا، ولم نتعلم شيئا من دروس الماضى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved