اليوم الثامن

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 26 نوفمبر 2014 - 9:15 ص بتوقيت القاهرة

يحدث كل ليلة. أفتح زجاجة الدواء مترددا أكاد أكون واثقا أننى بالكاد انتهيت من ابتلاع القرص المسائى المعتاد. صرت لا أصدق أن يوما كاملا قد انتهى، حتى يحدث ما يؤكد لى بالدليل القاطع أن اليوم مر فعلا ولكن بسرعة رهيبة. أتخيل أحيانا أن أيام زماننا هذا هى الأقصر والأسرع بين ما مر بى من أيام على امتداد حياتى. كل ليلة أمضى آخر دقائق اليقظة أعاتب النفس على أننى لم أقرأ خلال اليوم كل ما كان يجب أن أقرأه، ولم أكتب كل ما تمنيت أن أكتب، ولم أسهر مع من أتوق إلى السهر بينهم، ولم أمارس رياضة أو أزاول تمرينا. «اليوم» لم يعد يكفينى.

•••

لست وحدى . فقد جاء فى تقرير لمؤسسة جالوب أن الأكثرية العظمى من الناس يعتقدون أن «اليوم» لم يعد كافيا . صار معتادا أن ينقض الفرد منا على كل لحظة فراغ تلوح أمامه فيقتنصها ويضيفها إلى ساعات عمله. صار مألوفا أن تدعى مجالس الإدارة ولجان العمل إلى الانعقاد بعد مواعيد العمل الرسمية. صارت مشكلة عائلية مزمنة اتهام الزوج بأنه يفضل قضاء وقت إضافى فى العمل على حساب وقت الفراغ الذى يجب أن يقضيه مع زوجته وعائلته ومن أجل راحته الجسدية. صار الذهاب إلى السينما أو نزهة سريعة مصدر تأنيب ضمير، وصار الوقت الذى يقضيه الإنسان للراحة تقصيرا فى العمل وليس حقا من حقوق الاستجمام.

•••

يؤكدون فى الخارج أن ظاهرة الشكوى من «ضيق» الوقت أصبحت تتسبب فى مشكلات صحية كبيرة، كثيرون يعانون من أمراض التوتر العصبى والأرق المزمن والتهابات القولون وآلام الصداع العنيف، فضلا عن مشكلات عاطفية وإنسانية ليس أقلها شأنا المشكلات العائلية والتغيرات الجوهرية، التى تدخل على أنماط المعيشة، ومنها عادات وطقوس تناول الطعام.

نعرف الآن أن عادة تناول الأكلات السريعة لم تنتشر بشكل واسع إلا مع زيادة الحاجة إلى عمالة النساء. يقول خبراء أمريكيون، ومنهم مسئولون عن اتحادات البقالين وشركات تعليب المأكولات وتجميدها، أن للأكلات السريعة، كالبيتزا وسندوتشات الهامبورجر وصوانى التليفزيون للمأكولات المجمدة، الدور الأعظم فى تمكين المرأة وفى تحريرها. لقد أفلحت هذه الأكلات السريعة فيما لم تفلح فيه انتفاضات النساء فى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. تشير دراسات هؤلاء الخبراء الى أن المرأة العادية كانت تقضى من خمس إلى ست ساعات يوميا بين شراء لوازم الغذاء وإعداده وطبخه وغسل الصحون وتنظيف المطبخ. هكذا تكون صناعة الأكلات السريعة قد وفرت مئات الألوف من الساعات، خدمت الإنسانية والاقتصاد الوطنى «فى قطاعات إنتاجية أجدى» .

•••

ذهب متطرفون من الحريصين على الوقت لسلعة استراتيجية جديرة باستثمار أفضل إلى حد الدعوة لابتكار أنواع من الغذاء لا يحتاج التحضير لها إلى تسوق وطبخ ولا يحتاج تناولها إلى الجلوس على مائدة طعام . قالوا إن الجلوس على مائدة فى مطعم أو فى بيت يستهلك ما لا يقل عن ساعة ونصف يوميا من وقت الفرد العادى. بمعنى آخر أنه فى عائلة مكونة من أربعة أفراد قد يصل «الوقت المهدر»إلى ما يزيد على ست ساعات يوميا.

ثم انضم مؤرخون إلى هؤلاء المتطرفين فى وضع خطط لصيانة الوقت وحسن استخدامه. راحوا يزعمون، وربما عن حق، أن مائدة الطعام كقطعة أثاث لم تظهر فى الولايات المتحدة إلا فى القرن السابع عشر وبالتحديد بعد اختراع الشوك والسكاكين. يزعمون أيضا أن الناس فى الأزمنة القديمة قلما اجتمعوا على غداء أو عشاء إلا فى المناسبات الدينية والاحتفالات الترفيهية. للوهلة الأولى يبدو أن شعار سيدة البيت فى ذلك الحين كما هو فى وقتنا الراهن، (الجعان يروح يغرف وياكل) . وقد وقع تجاهل الاجتماع على مائدة الغداء التى نشأ عليها أغلب أبناء جيلى عندما تغيرت مواعيد عمل موظفى الدولة فى مصر وتعقدت مشكلات المرور وتعددت صعوبات الانتقال. كنا نأكل جمعا ونناقش أمور اليوم فى العمل والمدرسة والبيت ويستمع الصغار إلى النصائح والإرشادات. وبعد الغداء يذهب كل منا إلى حاله، هذا إلى قيلولته وذاك إلى أقرانه أو كتبه وكراريسه، وسيدة البيت إلى مشغوليات أخرى شغلها عنها التحضير للغداء.

•••

ذهبت دعايات صناعة الوجبات السريعة إلى محاولة إقناع الشعوب بأن عدم الاهتمام بالطعام سواء إعداده أو تناوله إنما هو دليل تحضر ورقى. الإنسان العصرى فى نظر هؤلاء لا يضع الغداء أو العشاء المنتظم بين أولوياته ويعتبر الجلوس إلى مائدة مع آخرين فى منزله أو فى ضيافة منزل آخر عادة بالية تنم عن رغبة كبير فى العائلة أو فى الجماعة فرض هيبته وتأكيد سلطته. هكذا تحاول هذه الصناعة الرائجة غرس الانطباع بأنها كما حررت المرأة من قبل فواجبها الآن تحرير الشباب.

يبدو أن هذه الدعايات لا تهتم بدراسات عديدة أجريت عن التغير الحادث فى سلوكيات الشباب خلال الخمسين عاما الأخيرة. تثبت الدراسات أن وجبة الغداء أو العشاء العائلى كانت المصدر الأول فى مرحلة بناء شخصية الطفل والمراهق، وكانت السبب الرئيسى فى حماية الأسرة من خطر الانزلاق نحو الطلاق أو الانفراط. أنا شخصيا أعرف عن ثقة وتجربة أن وجبة الغداء المشترك كان لها الفضل الأكبر فى نسج شبكة قوية من الروابط بين الأشقاء والأحفاد وأبناء وبنات الأخوال والخالات وساعدت فى إقامة دروع من التكافل، تتولى بين الحين والآخر حماية الأطراف الضعيفة فى العائلة من اعتداءات الزمن وتجاوزاته.

الامتناع عن تناول الطعام فى وجبات صحية كاملة، وفى صحبة حميمة وممتعة لن يحل وحده مشكلة تسارع مرور الوقت. يحلها، فى ظنى، ترتيب مكامن للسعادة فى حياة كل منا وإعادة توزيع الوقت عليها. لن تحل المشكلة نفسها بنفسها. واجب كل منا أن يحل المشكلة قبل أن تتفاقم تداعياتها فى شكل مرض أو ضيق أو تقوقع وانعزال، لا قدر الله، بيدنا نستطيع أن نجعل يومنا أطول وأكثر نفعا ومتعة.

•••

الأسبوع سبعة أيام ولن يكون هناك يوم ثامن.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved