مفتاح العودة النحاسى

تمارا الرفاعي
تمارا الرفاعي

آخر تحديث: الخميس 26 نوفمبر 2015 - 8:10 ص بتوقيت القاهرة

تناقلت وسائل الإعلام هذا الأسبوع صورا لرجل ثلاثينى يمسك قطعة خبز بيده، يقطر وجهه ألماً وذلاً، وهو يبكى، يمسح دموعه فيواسيه طفله الجالس أمامه. الصور بحسب مصدرها الإعلامى للاجئ سورى وصل إلى بلد أوروبى.

لم أقوَ على البحث فى بحر القصص عن قصة هذا الرجل الذى خذلته أعصابه بعد رحلة كانت حتما شاقة، فلم يتمالك حزنه ودموعه ورجولته بعرف البعض، لم يتمالك أبوته وقوة مثابرته، فتهاوى أمام شعوره بالبعد والفقدان والخوف من المجهول، لم يستطع أن يتماسك فانهمرت دموعه، فهبَ طفلُه يمسحها ويربت على رأسه كأنه هو الأب والأب طفله، فى لحظة التقطها مصور إحدى القنوات التليفزيونية فنشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعى.

***

نغرق نحن السوريون فى فيضان الصور والعواطف والحزن، نرى لحظات التقطتها الكاميرات فلا نصدق أننا نحن من يتعرض لهذا الكم من الذل والضياع. نتذاكر مواقفنا كأفراد وكمجتمع أثناء الأزمات السياسية والإنسانية التى سبق وأن حاقت بالدول المحيطة بسوريا، فنحكى قصصا عن استقبالنا لهذا الشعب «الشقيق» أو ذاك. قد نضخم الأمور قليلا، قد نبالغ بعض الشىء فى استعادة وصف دورنا وكرمنا فى ذاكرتنا حتى نفسح مجالاً أكبر لغضبنا من العالم الذى خذلنا، ولخيبة أملنا من ذلك الكائن الهلامى الذى يسمى بـ «المجتمع الدولى»، أو الكائن الآخر المسمى بـ «الوطن العربى»، الذى ظهر وكأنه قد لفظنا من مقعدنا فى رحلة الحياة فسقطنا فى ظلماتها دون أن يلتقطنا أو ينقذنا أحد.

تنهال علينا القصص من كل مكان، يتراشقها العالم فيصيبنا نحن فى الصميم ويصيب قلوب البعض منه، فالتعاطف الإنسانى مع صور الأطفال الذين ابتلعهم البحر عالٍ نسبيا، وينتج عنه مبادرات فردية ومجتمعية معقولة فى دفء استقبالها ومساندتها للسوريين حديثى الوصول إلى البلاد الجديدة، بعيدا عن مواقف الدول السياسية من الأزمة السورية. تحتل بعض الصور أو القصص المراتب الأعلى فى سباق الأخبار وسباق التعاطف، قد يركض صحفى وراء عائلة مصورا فى مقال أو صورة رحلة عذابها، أو قد يمشى عامل إغاثة مع عائلة أخرى عبر حدود دولة ما، حتى يسهِل على أفرادها تسجيل أنفسهم مع المنظمات الإنسانية فى الناحية المقابلة من الحدود.

نسمع عن قصص نجاح تلميذة من حمص فى مدرسة فى ألمانيا، أو نقرأ عن اختراع علمى جديد على يد مهندس من حلب فى جامعة فى السويد. نهنئ أنفسنا كسوريين، وكأننا بحاجة أن نتذكر أننا أشخاص عاديون، بيننا الذكى والأقل ذكاء، بيننا الفنان والمبدع والموسيقى والكاتبة وعالمة الفيزياء.

لكن مقابل كل قصة تظهر تختفى الكثير من القصص الأخرى، مقابل كل شاب مبدع فى مدرسته الجديدة يسقط عشرات الأطفال من منهج المدرسة، مقابل كل منحة يحصل عليها طالب سورى يعمل المئات فى الحقول لإعالة أهلهم. مقابل كل قصة تظهر فتجذب الاهتمام ولو لدقائق، تختبئ آلاف القصص عن الموت والاعتقال والتعذيب والفراق.

***

يجلس والدى على كرسيِه فى ركن الغرفة يقرأ ويتأمل، تتحرك والدتى من حوله كعادتها فى البيت، فهى لا تهدأ. حين انتقلا إلى القاهرة منذ نحو السنتين أعادا ترتيب حياتهما فى مكانهما الجديد، نقلا عاداتهما اليومية ورتبوا المكان من حولهما بشكل يناسبهما، ويذكِرهما نوعا ما بحياتهما فى الشام من حيث الإحساس وليس فى الشكل أو المحتوى، فالمحتوى بقى هناك، فى البيت الهادئ الذى تدخله الشمس من جميع زواياه، فتحييه على مراحل خلال النهار. يشرب أبى القهوة وهو ينظر إلى الصفحة التى أصبحت إلكترونية بدلاً من ورقية، وتدردش أمى مع صديقتها فى بلدها الجديد هى الأخرى عبر سكايب، وليس عبر خط الهاتف الأرضى. هما هنا على أمل أن يعودا إلى هناك.

أتذكر قصة كنت قد سمعتها كثيرا فى صغرى، عن المفتاح النحاسى المخبأ فى علبة البسكويت الصفيح، مفتاح البيت الموضوع مع أوراق إثبات الملكية، التى حملها الفلسطينيون معهم حين هُجِروا وانتُزعت منهم أراضيهم. لطالما تخيلت علبة بسكويت غندور قديمة، كالتى كانت تحتفظ بها جدتى بعد أن نقضى نحن الأحفاد على محتواها، وأتخيل أوراقا قديمة مُصْفرَة داخلها، بهت الحبر عليها حتى كاد أن ينمحى، ورقَت سماكتها عند خطوط طياتها من كثرة الفتح والطوى حتى كادت تهترئ. يقرأ أبى صفحاته، تتلقى أمى الأخبار، يصل سورى جديد إلى أوروبا فى قوارب الموت، تموت طفلة من البرد فى مخيم للاجئين، تربح طالبة سورية فى أمريكا جائزة على اختراع، يحدث كل هذا بينما فى الخلفية تغنى فيروز «فزعانة يا قلبى تكبر ب هالغربة وما تعرفنى بلادى، خدنى خدنى، خدنى على بلادى». 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved