روسيا مركز لأممية جديدة

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 26 ديسمبر 2013 - 7:30 ص بتوقيت القاهرة

اجتمعت تطورات متعددة لتترك الانطباع بأن روسيا خرجت من عباءة الحرب الباردة وبدأت تنفض عن نفسها صورة «الأمة المهزومة».

ليس من قبيل المبالغة القول أن الرئيس فلاديمير بوتين حقق لبلاده مكانة دولية متميزة. تحققت هذه المكانة بعد سعى طويل وشاق ومناورات داخلية معقدة ولجوء إلى أساليب مستوحاة من النظام التسلطى السوفييتى.

كذلك كان للأزمة السورية فضل كبير، فقد وظفها الرئيس بوتين لهدف استعادة موقع لروسيا فى الشرق الأوسط، أو لتعزيزه، خاصة أنه أدرك أن الغرب منقسم على نفسه إزاء نوع التدخل فى الأزمة وأن أمريكا مترددة وغير واثقة من اتجاهات رياح ثورات الربيع عموما وثورة سوريا بخاصة.

أدرك بوتين أيضا أن فرص صعود تيار الأصولية الإسلامية المتشددة ستزداد فى حال سقوط نظام الأسد، وأن بلاده على عكس أمريكا وبعض دول الغرب لا تملك رفاهة الدخول فى تجارب تحالفات وعلاقات تعاون مع قوى إسلامية متشددة فى الشرق الأوسط، ولديه أسبابه التى تبرر رفضه التفاهم مع القوى المتشددة وأهمها الحرب الدائرة بدون توقف فى القوقاز مع الإسلاميين المتطرفين وخطر تمدد الأفكار السلفية وغيرها إلى مناطق إسلامية فى جنوب روسيا، وبخاصة بعد أن وصلت إلى أمة الإيغور فى مقاطعة سينكيانج شرقى الصين.

•••

لقد أثبت بوتين للغرب، ولكثير من دول العالم النامى، من خلال تعامله مع الأزمة السورية وقضية النووى فى إيران وموقفه من درع الصواريخ وعلاقة أوكرانيا بالاتحاد الأوروبى، أثبت أن نظرة روسيا إلى الأزمات الدولية عبرت بوضوح عن درجة من الفهم والحزم فى صنع السياسة الخارجية لم تعد تتوافر لدى الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية. أثبت أيضا بنجاحه فى تحقيق الاستقرار والأمن فى ربوع روسيا وهيمنته شبه الكاملة على السياسة والسياسيين فى بلاده، وأن روسيا تستطيع أن تقود وتدير سياسة خارجية مستقرة ومسئولة معتمدة على أوضاع داخلية جيدة. هذه الإنجازات على الصعيدين الخارجى والداخلى شجعت واشنطن وعواصم أخرى على إعادة اشراك موسكو فى اتخاذ قرارات دولية حساسة، والاستماع إلى تقديراتها وتحليلاتها، ودفعت بدول أخرى إلى إعادة ترتيب أولوياتها الدبلوماسية والاستعانة بروسيا لتهذيب الهيمنة الأمريكية.

تدخلت لمساعدة بوتين عوامل لم تكن قائمة قبل عشر سنوات، مثل الأزمة الاقتصادية الأوروبية التى جعلت قطاعات مهمة فى الشعبين الروسى والأوكرانى وفى شعوب أخرى تعتدل فى إعجابها بإنجازات الاتحاد الأوروبى، وتبحث عن بدائل أخرى.

يذكرون فى عواصم عديدة لجمهوريات خضعت طويلا للحكم السوفييتى دعوة وجهها الرئيس جورباتشوف قبل خمسة وعشرين عاما للشعب الروسى بأن ينظر غربا نحو مستقبل ينضم فيه إلى أوروبا الواحدة والموحدة. وقتها كان الشعار السائد هو «مع روسيا المتوجهة إلى أوروبا».

•••

ساهمت الأزمة الاقتصادية الأوروبية، بين أمور كثيرة، فى إيقاظ الشعور القومى الروسى. هذه الصحوة التى استثمرها بوتين إلى أبعد الحدود. الأمر الذى لم يعد يخفى على المراقبين الأجانب المتابعين لتطورات السياسة الداخلية فى روسيا هو أن حكومة الرئيس بوتين بدأت فى تنفيذ خطة إعلامية وسياسية تهدف إلى وضع أسس لأيديولوجية روسية تحل محل الأيديولوجية السوفييتية. هذه الخطة تسير على خطين متوازيين، خط داخلى وخط خارجى.

داخليا، تنشط جميع الأجهزة الحكومية والموالية للرئيس العاملة فى قطاعى الإعلام والسياسة لبث الروح الوطنية وتعظيم قيمة التقاليد الروسية. تدعو أيضا إلى التمسك بالقيم الأخلاقية والتخلص من جميع السلبيات التى جلبها الشعور بالهزيمة فى الحرب الباردة التى نشبت بين روسيا والغرب. يجرى تنفيذ الخطة برعاية الكنيسة الارثوذكسية الروسية، باعتبارها المظلة التى يجرى فى ظلها بناء هذه الأيديولوجية الجديدة، وهى المظلة التى يعود إليها الفضل فى المحافظة على «وحدة الشعوب السلافية ونقاء الدين المسيحى».

خارجيا، التركيز على أن أوروبا الغربية تتحلل أخلاقيا وسياسيا، ففى مجال العلاقة بين المرأة والرجل زالت الفوارق لغير صالح أنوثة المرأة وتميزها فى مجال العلاقات الاجتماعية. يقول الإعلام الروسى إن الأوروبيين تجاوزوا كل الحدود بانتهاجهم سياسة تسامح مبالغ فيها فى التعامل مع تيارات العلمانية وانحسارات نفوذ الكنيسة المسيحية ومع التنازل المتسارع فى سيادة الوطن والدولة لصالح مؤسسات عابرة للقومية.

كما تتضمن الخطة الإعلامية انتقادات للسلبيات الناتجة عن منح المواطن الأوروبى حقوقا عديدة دون أن يقابل هذا المنح واجبات والتزامات من جانب المواطن تجاه بقية المواطنين وتجاه الدولة ومؤسساتها ومنظوماتها الأخلاقية. مجتمعات أوروبا كما تراها الأيديولوجية الروسية الناشئة، تمر تاريخيا بمرحلة «ما بعد المسيحية» وما بعد «سيادة الدولة» و«ما بعد القيم الأخلاقية».

هذا عن الجوانب السلبية فى أيديولوجيات الآخرين كما تكشفها خطة الدعاية الروسية الجديدة. ترد عليها الخطة بأفكار محددة مثل النية فى تنظيم حوار حضارات تطرح موسكو من خلاله رؤيتها لدور الأخلاق والدين فى المجتمع العصرى، وتدشين قنوات تليفزيونية بلغات أجنبية تخاطب الخارج وبخاصة أوروبا الغربية، ودعوة علماء اجتماع من دول الغرب وبخاصة أمريكا للتدريس فى جامعات روسيا والتشبع بأساليب حياة الشعب الروسى.

•••

يصعب، ونحن نتابع خطط بوتين لبناء روسيا، أن نقف عند التحليل الذى يرى أن بوتين يسعى إلى إقامة امبراطورية روسية تحل محل الامبراطورية السوفييتية. أعتقد أن بوتين يسعى أساسا إلى أن تكون موسكو «مركزا للقيم» ومقرا لتنظيم أممى يبشر بأفكار يمينية وقومية، ويدعو حكومات العالم إلى تأكيد التزامها حماية التراث الثقافى والأخلاقى لشعوبها وأساليب حياتها والمحافظة على أنماط تدينها. بمعنى آخر يقيم تنظيما أمميا تتجمع فيه التيارات اليمينية والمحافظة التى تدعو إلى الحد من ظاهرة انفراط المجتمعات وتحللها أخلاقيا تحت عناوين التعددية الثقافية والتحرر الاجتماعى والمساواة الكاملة.

بوتين يستحق الانتباه والمتابعة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved