ما بعد الحذف والإضافة.. كيف نضع مناهج ضد التطرف؟

هانية صبحي
هانية صبحي

آخر تحديث: السبت 26 ديسمبر 2015 - 10:40 م بتوقيت القاهرة

على الرغم مما يبدو من اهتمام على أعلى مستوى بإصلاح المناهج التعليمية لمحاربة التطرف، فإننا لم نر حتى الآن إلا تغييرات محدودة فى هذا المجال. إن الإصلاح الحقيقى للمناهج ليس مرهونا بـ«التأكيد على نبذ العنف» أو إدراج «الاعتدال والوسطية والتسامح» كصفات إيجابية يطلب من الطلاب التحلى بها، ولا يتمثل فى حذف فصل هنا أو إضافة فقرة هناك. فالطلاب لا يتجهون للعنف بعد قراءة قصة قصيرة عن الصقور والعصافير. بل إنه من الأجدر بالوزارة تفعيل تعليماتها الرسمية بمنع الضرب فى المدارس ليتعلم الطلاب أن الاحترام وليس العنف هو الطريقة الطبيعية للتعامل مع الآخرين. وبعيدا عن الحذف والإضافة، فإن ما يواجهنا الآن هو ضرورة وضع إطار شامل لكل مادة بناء على استراتيجية مدروسة وفى ضوء أهداف وأولويات واضحة.
***
ويدفع هذا المقال بوجهة نظر مخالفة لما يتم طرحه حول هذا الموضوع. فصياغة «مناهج ضد التطرف» لا تعتمد على تنقيح الخطاب الدينى وتناول مسائل الجهاد والشريعة ودور المرأة، بل تقريبا العكس من ذلك: الهدف هو توسيع مدارك الطلاب وآفاقهم على قضايا محلية وعالمية واهتمامات تنموية واجتماعية متنوعة لا تدور فقط حول مسائل الهوية. وبالطبع فإنه من الإيجابى أن يتم تحديث مناهج التربية الإسلامية، مادام ذلك لا يتركز فقط حول مراجعة بعض الفقرات التى تتعلق بالعنف أو القضايا الخلافية. بل يجب أن يكون الهدف هو إعادة صياغة الإطار الكلى لهذه المناهج لتقليل المحتوى الجاف المكرر فى كل عام وتقديم مواد قوية ومقنعة من شأنها أن تدعم التربية الروحية والأخلاقية للطلاب.
ولكن اللغة العربية وليست المناهج الدينية هى التى يجب أن يكون لها أولوية الإصلاح. إن التطوير الشامل لمناهج فعالة وجذابة للغة العربية يعد ضرورة قومية قصوى لعلاج الحالة المتردية لمهارات القراءة والكتابة لدى الطلاب، وكل ما يترتب عليها من قدرتهم على التحصيل فى سنوات الدراسة التالية. والهدف الأساسى هو تحبيب اللغة لنفس الطلاب والبعد عن المحتوى الجاف والتركيز على تنمية مهارات الكتابة والبحث والتفكير. وبصورة أكثر تحديدا، يجب أن تولى المناهج اهتماما كافيا بتعريف الطلاب بالتراث الثقافى المصرى والعربى المعاصر. ويجب أن يتم التنويع بين الروايات والقراءات التى تركز على الفتوحات والجهاد أمثال عقبة بن نافع وواإسلاماه، التى يتم تدريسها من عشرات السنين بدون تغيير أو تطوير، وروايات أخرى مما يزخر بها الأدب المصرى والعربى المعاصر، الذى تتجاهله المناهج لسبب غير مفهوم. ويجب بشكل عام إعطاء مساحات أكبر للقراءات التى تركز على قضايا محلية وعالمية مهمة تثرى من ثقافة الطلاب وقراءات تتخذ القانون والدستور والأطر المؤسسية للدولة كمرجعيات رئيسية.
***
وكما أن لدينا أزمة فى مناهج اللغة العربية فإن مناهج التاريخ الركيكة، بعرضها الجاف الممل الذى يدور حول حفظ التواريخ والأحداث، تجعل الطالب يمقت التاريخ ولا يخرج منه بعلم يذكر. فكتب التاريخ أيضا يجب أن تعاد صياغتها تماما بطريقة أكثر توازنا وانفتاحا وحيوية. فالمناهج الحالية لا تقدم تقريبا أى معارف عن الحضارات الأخرى، سواء عن تاريخها أو ثقافاتها أو آدابها أو فنونها أو ثوراتها أو حروبها. وقد تكون مصر من قلائل الدول التى لا تشمل مناهجها محتوى حقيقيا عن الدول الأخرى، سواء كان ذلك عن إندونيسيا وماليزيا وباكستان، أو روسيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا، أو حتى إفريقيا أو دول عربية أخرى سواء فى الخليج أو المغرب أو المشرق. هى كتب منغلقة على ذاتها تركز فقط على مصر، وخصوصا الحضارة الفرعونية وجانب من التاريخ الإسلامى. وهى بهذا لا تنمى لدى الطلاب أية دراية أو اهتمام بالعالم الخارجى وتجعلهم أكثر قابلية للتعصب والشك فى الآخر. ومن فوائد التعرف على تاريخ الدول الأخرى وقضاياها دعم الإحساس بالإخاء الإنسانى مع باقى شعوب العالم التى عانت الفقر والحروب والاحتلال، وإدراك أن المسلمين ليسوا هم وحدهم فى ذلك. هذا بالإضافة إلى التعرف على التاريخ المعاصر للمجتمعات المسلمة والعربية والإفريقية المجاورة. إن انغلاق المناهج الشديد يحرم الطلاب من المعارف المقارنة التى تمكنهم من التفكير فى مشكلات بلادهم فى ضوء تجارب الدول الأخرى. وبصورة عملية، فإن إصلاح مناهج التاريخ يجب أن يستحدث على الأقل كتابين أحدهما مثلا عن «تاريخ وثقافات العالم» والآخر عن «تاريخ العالم العربى والإفريقى المعاصر»، وذلك حتى استكمال تطوير مناهج جديدة عبر سنوات التعليم المختلفة.
وفى إطار الخروج من الذات ومن الجدل حول قضايا الهوية، يجب إعادة صياغة مناهج الدراسات الاجتماعية بحيث تمد الطالب بوعى حقيقى عن القضايا الاجتماعية والصحية والبيئية المهمة فى مجتمعه المحلى وفى مصر والعالم. ويجب عدم «إقصاء» مثل هذه القضايا الحيوية إلى مناهج التربية الوطنية والمواطنة التى لا يعير لها الطلاب والمعلمون بالا. بل والأجدى إلغاء تلك المواد وتكاليف طبعها ودمج مواضيعها الجيدة فى المواد التى تدخل فى مجموع الطلاب. ويجب هنا التأكيد على ضرورة أن تكون المناهج صادقة فى عرضها لأحوال البلاد وأن تعترف بمسئوليات الدولة وحقوق المواطنين، وذلك لكى تتسم بالحد الأدنى من المصداقية للطلاب بدلا من أن يسخروا منها ويستهينوا بها. ويجب أن يتمكن الطلاب من مناقشة مشكلات البلاد فى المدارس، وليس فقط مع الجماعات المتطرفة. وبصورة عملية، فإن استحداث منهج قوى عن «قضايا التنمية فى مصر والعالم» لا يمثل أى تهديد للنظام، بل من شأنه أن يساعد الطلاب أن يتفهموا أن المشكلات التى تواجهها بلادهم، من الفقر لضعف التعليم والبطالة، موجودة فى جميع أنحاء العالم وحتى الدول الغنية. والهدف أن يكون ذلك جزءا من إصلاح شامل لمناهج الدراسات الاجتماعية. وأن ينبع من ذلك توجه أوسع لتدريس العلوم الاجتماعية فى الجامعات وفى الكليات العلمية، لموازنة ما نعلمه من انخراط طلبة الهندسة والعلوم بنسب أكبر فى الجماعات المتطرفة.
***
ولكن لتحقيق مثل هذا الإصلاح الحقيقى للمناهج بعد عقود من الركود، يجب استحداث آليات مختلفة تماما عما أدى بنا إلى الوضع الحالى. وتتمثل أولى خطوات هذا الإصلاح فى تكوين هيئة من أفضل الخبرات والعلماء والمثقفين تقوم بالإشراف على وضع استراتيجيات عامة جديدة لكل مادة، يعمل على ترجمتها إلى مناهج متطورة فرق من الباحثين والخبراء الأكفاء يصوغون كتبا وطرق تقويم حديثة تعتمد على الأنشطة وتعدد الوسائل التعليمية والمشاريع البحثية وورش العمل. ولن يتسنى ذلك إلا بتخصيص الموارد الكافية لهذا العمل الوطنى المهم، وبمراعاة الشفافية فى اختيار الكفاءات البعيدة تماما عن مصالح مافيا الدروس الخصوصية والكتب الخارجية ولجان تأليف الكتب فى الوزارة التى وقفت حائلا أمام مثل هذا التطوير لسنوات طويلة.
وتطوير كهذا لا يمكن أن يتم إلا فى إطار جهد أشمل لإصلاح التعليم. وكما أن المقابل الحقيقى لمناهج ركيكة منغلقة على الذات هو مناهج متطورة منفتحة على مواضيع ورؤى متعددة، فإن المقابل الحقيقى للتطرف وميل الشباب إليه هو التنمية والعدل وبناء مؤسسات الدولة وأولها إصلاح تعليمها المتدهور.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved