صلاح عيسى استراحة «مشاغب»

سيد محمود
سيد محمود

آخر تحديث: الثلاثاء 26 ديسمبر 2017 - 10:25 م بتوقيت القاهرة

مشاهد كثيرة طافت بذهنى عندما تلقيت نبأ وفاة الكاتب الكبير صلاح عيسى أمس الأول لكنى تذكرت اول ما تذكرت صورتى وانا على اعتاب دراستى الجامعية حين كنت بصحبة والدى نزور أحد زملائه بالعمل وكان نقابيا تعرض للفصل من وظيفته.

ومن شرفة بيت صغير تطل على ميدان السيدة زينب بقيت ارقب العالم بملل حتى لمحت كتابا على طاولة فى ركن مهمل ولم يكن إلا كتاب «حكايات من مصر» فى النسخة التى كانت معدة للفتيان وما ان بدأت قراءته حتى اندمجت تماما وقد لاحظ صاحب البيت هذا التورط فأصر مجاملا على أن اخذ الكتاب معى كهدية لأكمل قراءته على مهل لكنى انتهيت من قراءته كاملا فى المترو قبل أن اصل إلى بيتنا فى حلوان.

وبفضل شغفى بالكتاب وبكتاب آخر لا يقل جمالا هو كتاب «أيام لها تاريخ» لأحمد بهاء الدين حسمت ترددى وقررت دراسة التاريخ وتوقعت ان تعتمد دراستى على كتب شبيهة لكن ظنى قد خاب.

وبالمصادفة تعرفت على زميلى سيد خلف طالب قسم الجغرافيا الذى كان يكبرنى بعام ويقرأ جريدة (الأهالى) بانتظام لأجل اسمين فقط هما ناجى جورج وصلاح عيسى وتحت تأثير صداقته داومت على قراءة الجريدة التى علمتنى الكثير أيام تألقها التى لا تنسى ومنها عرفنا ان صلاح عيسى أصدر كتابا عنوانه «مثقفون وعسكر» (1986)، لا أعرف كيف وصل الينا لأن صاحبى قام بتجليده بورق جرائد ليحافظ على اناقته التى كانت فى الظاهر والباطن. 

لا أذكر من فينا كان صاحب الكتاب من فرط ما تبادلنا قراءته لكن تأثيره بقى حيا إلى اليوم، ولا اعتقد أن كتابا صنع بنا ما صنع هذا الكتاب الكبير فقد اعتبرنا ما فيه «تعاليم» و«وصايا» ينبغى اتباعها وبفضله عرفنا الاسم وحفظناه وتتبعنا خطواته كما يفعل محققو الأثر، كنا «مريدين» لكاتب عرفنا مبكرا أنه «شيخ طريقة». 

لفت نظرنا صلاح عيسى بأسلوبية فذة وفريدة، لأن بنية الكتاب قامت على مقالات لم تكن قصيرة كتلك التى نعرفها ولا طويلة مدججة بنبرة اكاديمية جافة أو رؤى نظرية تصيب القارئ بالصداع وانما كانت أقرب إلى «سرديات قصصية» هدفها العبرة والمتعة وهذا واحد من دروس صلاح عيسى الكثيرة التى لم يتخلَ عنها ابدا، فهو على خلاف الكثير من الكتاب لم يكن يكتب بنبرة متجهمة مهما كانت جدية الموضوع الذى يطرحه.

تشعر أنه يبتسم وراء كل فقرة يكتبها، وعبر مسيرته تمكن من خلق أسلوب يتمتع إلى جانب الرصانة بكثير من الأناقة والرشاقة والعمق والخفة بالمعنى الجمالى.

وحين بدأت العمل بالصحافة كان هو «مصدرى المفضل» بعد دقيقة واحدة من أى اتصال معه كنت أرى الموضوع الذى أرغب فى كتابته فهو يعطى الخطة والمسار والدليل ويقلب الأوراق كلها ولذلك كان كل اتصال معه «بيان على معلم» وكذلك كانت حياته واضحة لم يخف انحيازاته فى أى من مراحلها.

تعامل مع كل خلاف برحابة نادرة واتساع افق حقيقى وبلغ مبكرا «سنوات الغفران» التى يستطيع من يبلغها أن يستوعب ويقفز فوق تناقضات كثيرة لاحقته. 

وعلى الرغم من ان «مشاغباته» الصحفية جرت عليه معارك كثيرة وحصرته فى السنوات الأخيرة فى الثنائية التى صاغها هو مبكرا فى عنوان (مثقفون وعسكر) إلا أن ما قدمه لمهنة الصحافة أكبر بكثير من هذا الاختزال المخل وما حصده فى نهاية الرحلة أقل بكثير مما يستحق.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved