هى.. الكلمة

خولة مطر
خولة مطر

آخر تحديث: الأحد 27 يناير 2019 - 11:15 م بتوقيت القاهرة

هى ما تبقى بعد كل شىء، لم يعد بالمستطاع أن تقول إنهم قد ينسون تلك الكلمة التى قيلت أو كتبت فى فضاء ما يوما ما... فعندما ترحل بعيدا أو قريبا أو حتى إلى ما تحت التراب، اعرف أنها ستكون الأثر الذى يبقى منك وليس ذاك الولد أو البنت والسلالة.. مهما كان اسمك واسم قبيلتك ومهما كانت العائلة التى زودت ب «ألف لام» أخيرا أصول الوجاهة والتأكيد على أنك قبلى حتى النخاع! ستبقى هى أيضا أقوى من ألف لامك واسم قبيلتك..
***
يكتب التاريخ المنتصرون ولكن يتسلل المنهزمون من كوة فى جدار التاريخ ويصفون كلماتهم ورواياتهم هم أيضا.. للحظة التاريخية زوايا وكل يبصرها من زاويته فلا توجد رواية واحدة ولا حقيقة واحدة قبض عليها المستبدون ليصبح نيرون من زرع مليون زهرة ولم يحرق روما.. وغاندى المسالم الذى طارد المستعمر بثوب من الكتان الأبيض وعصا يستند عليها لا يضرب بها فيما تسللت الحقائق عن ممارساته فى جنوب إفريقيا وعنصريته ضد الأفارقة السود سكان البلد الأصليين.. الكلمة أقوى من السيف، فدون قطرة دم تبقى هى تنحت فى ذاكرة المكان والزمان، ترسم صورا جديدة بعضها حقيقى جدا ورغم كل رواياتهم تنفذ الكلمة بين الكتب والأسطر المتراكمة وتأخذ موقعها ليقرأها أحد أو يراها فيبقى النور أقوى من ظلمتهم وظلامهم...
***
بعضهم أدرك قوة الكلمة حتى قبل أن تتحول إلى كندل وإلى صور وإلى محركات بحث وإلى فيديوهات توثق الكلمة بالصوت والصورة.. بعضهم خشى الكلمة وهى فى مهدها وراح يقول ولكن سأرحل أنا وتبقى كلماته هو فى ذاك الكتاب الموثق، سأتحول إلى شاهد فى مقبرة المحرق بين شواهد عدة وسيدفن هو ربما قريبا منى حيث هناك لا «تاجر» ولا فقير، كلنا نصطف فى شبر قرب شبر قرب شبر بين تراب وفوقك بضع صخور.. سيخرج هو كل مساء من قبره ويمد لسانه لى سيقول أين ملايينك وأنا الفقير أنام بالقرب منك ومعى سطران فى كتابى «من البحرين إلى المنفى.. سانت هيلانه «وهو الكتاب الذى وثق أيام الهيئة الوطنية فى البحرين فى نضالها ضد المستعمر.. أنا كتبت من هناك وأنا أجلس فى تلك الجزيرة البعيدة النائية أحن لليل البحرين من قراه حتى مدنه الدافئة.. أحن لرائحة خبز التنور الساخن فى الصباح وقطعة من الجبن وكوب شاى بالحليب تقدمهم أمى.. وأنا أعيش أول تجربة لى بعيدا عن وطن عشقته، فيما الآخرون الذين وقفوا يتفرجوا علىّ أنا ورفاقى وهذه أسماؤهم سردتها فى صفحات الكتاب حتى تبقى هى أقوى من نفيهم وسجنهم وموائد طعامهم الفاخرة..
***
الكلمة حتى أقوى من سيوف الدواعش التى قطعت رقاب النساء والرجال والأطفال.. الآباء منهم والزوجات والأبناء.. سترحل وتختفى داعش يوما كما حضرت فجأة قد تظهر بمسمى جديد ولكن ستبقى كلمات بعض من التحق بهم ودون انتهاكاتهم للدين الإسلامى الذى باسمه قتلوا واغتصبوا ونهبوا وباسمه حللوا وحرموا.. صوت المرأة والجلوس قربها ووجهها وأطراف أصابع قدميها.. كلها حرام حرام.. سيرحلون إلى مواقع فى بعض الكتب وستكون الكلمة هى الباقية وهى الأقوى..
***
مرت ذكرى 25 يناير والبشر كل البشر فى الميادين التى تفتحت فيها الزهور بدماء شباب وشابات.. سيقول كثيرون ما يقولون وستبقى كلمات «حرية، عيش، عدالة» أقوى من كل مطبليهم وصحفييهم والقابضين منهم وليس القابضين على الجمر بل القابضين للدنانير والدراهم والدولارات واليورو وكل العملات... كتب أولئك الحالمون كلمات وحولوها إلى صور طارت فى سماء الكون، رحلت من مدينة إلى أخرى ومن قرية إلى نجع وبلدة حتى أصبحت هى كما الثورة الفرنسية الأولى نقطة تحول فى تاريخ العالم سواء أحب بعضهم أم كرهوا.. هى الكلمة نقلتها مواقع متعددة فتحولت إلى انتفاضة ثم كلمة فى الميدان فكانت الثورة التى لم تسكن بعد، بل لا تزال تنشر رائحتها الذكية وفاء لتلك الزهور التى تفتحت فى الجناين..
***
من يخشى السيف ولا يخاف الكلمة فهو إما لم يقرأ التاريخ إلا من خلال بعض الجرائد الصفراء والكتب الأكثر اصفرارا وخواء، أو إنه كما ذاك الصبى الذى ردد على تلك الشابة القارئة النهمة عندما ناقشته عن قضية فلسطين فردد عليها باستخفاف شديد «لا أريد أن أقرأ أكثر فقد حددت موقفى وأصبح عندى الآن رأى « عجبى منك ومنهم.. فنصحته أن لا يقرأ طويلا فقد يصاب بخلع الكلمة ولكن ليستشير صديقه «جوجل» فهو الآخر قبض على الكلمة وصفها فى وجه كل القادمين المكذبين والمصدقين ومدعى الثقافة وحاملى لقب الدال قبل أسمائهم أو ألف لام..! ستبقى الكلمة أكثر حضورا من زنازين وسجون ووقائع مزورة تلك التى كتبها مبتدئون فى فك الحرف الأول، تلاميذ مدارس النفاق والتملق للواقف...

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved