قراءة فى المستقبل فى ضوء الماضى

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 27 فبراير 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

قبل أيام، كتب الأستاذ جميل مطر فى «الشروق» عن سوريا وما يجرى فيها وما يدبر لها، وعبرها لهذه الدنيا العربية جميعا، متوقفا أمام تجربة دولة الوحدة بين مصر وسوريا، الجمهورية العربية المتحدة، وكيف رأى السوريين آنذاك.

 

ولقد فتح الزميل الكبير الجراح مجددا، فارضا شيئا من المقارنة بين ما يسميه جيلنا «الزمن الجميل» وبين ما نعيشه اليوم فى زمن الخوف مما يجرى ومما سوف يجرى فى سوريا ولها، فى مصر وله، فى تونس ولها، فى العراق ولها، فى اليمن ولها، فى السودان وله، بغير أن ننسى لبنان الذى يمضى أيامه فى قلب القلق على المصير.

 

استذكر الأستاذ جميل مطر سوريا التى سعت إلى الوحدة مع مصر، بزخم هائل، فى مثل هذه الأيام من العام 1958. بحيث أنها أجبرت جمال عبدالناصر على القبول، برغم وعيه أن الحماسة الوطنية، والإيمان بالقائد ــ البطل، واللحظة التاريخية، كل ذلك لا يكفى لتأمين المطلب ــ الحلم من خصوم العروبة وأعداء وحدة الأمة، وفى الطليعة منهم إسرائيل وقوى دعمها الدولى بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.. بغير أن ننسى دور بريطانيا وفرنسا فى العدوان الثلاثى على مصر.. فضلا على غياب حماسة الاتحاد السوفييتى والمعسكر الاشتراكى، آنذاك، لمثل هذه الخطوة التى تبدل فى الخريطة السياسية وفى الاستراتيجيات الدولية.

 

فى السياق ذاته، وعبر استعادة سريعة لأحداث تلك المرحلة تتبدى المفارقات مفزعة بين ما كان عليه حال الأمة أواخر الخمسينيات من القرن الماضى وبين أحوالها البائسة اليوم.

 

ولأن لبنان قريب إلى حد التوحد فى المصير مع سوريا، فقد عشنا فى بيروت ومختلف المناطق أياما من الزهو لا تنسى، بين أبرز مظاهره الزحف البشرى اليومى عند إعلان الوحدة، ثم مع كل زيارة قام بها جمال عبدالناصر إلى سوريا، والاستقبال الأسطورى الذى لقيه القائد التاريخى فى مختلف المدن وأنحاء المحافظات السورية. تبدى الشعب السورى، يومها، صلبا فى وحدته الوطنية، مجمعا على خياره الوطنى. من دمشق إلى حمص، ومن حماة إلى حلب، ومن بانياس وطرطوس إلى اللاذقية، من الرقة والحسكة والقامشلى ودير الزور، من درعا والسويداء والسلمية وتدمر، وأرياف هذه المدن ذات التاريخ والتى باتت الآن عناوين فى الأخبار بوصفها مواقع فى ميادين الحرب الوحشية التى تدور رحاها بين النظام الحاكم ومعارضيه المسلحين الذين يغلب على تنظيماتهم الطابع الإسلامى، إخوانيا وأصوليا وسلفيا.. أما المعارضة السلمية، وهى الغالبة، فقد اعتصمت جماهيرها فى البيوت، حيث ما زال ثمة بيوت، أو خرجت هائمة على وجوهها قاصدة أى مأوى آمن يوافق على استقبالها، فى ما بين المحيط والخليج العربى فضلا على بعض عواصم أوروبا.

 

ما الذى جرى حتى اختلفت الأحوال إلى هذا الحد، فى مصر كما فى سوريا، فى العراق كما فى تونس، فى اليمن كما فى أقطار الجزيرة والخليج؟!

 

هل هى هزيمة للعروبة وانتصار للإسلام السياسى؟!

 

وكيف ولماذا تمزقت وحدة كل شعب، وانهارت اللحمة بين شعوب هذه الأمة، فتورط بعض حكامها فى علاقة دونية مع العدو الإسرائيلى مبتعدا عن القضية الجامعة والتى كان لها دائما موقع سامٍ إلى حد القداسة فى النضال العربى من أجل التحرر والتوحد، فلسطين؟!

 

لماذا بات يسهل الحديث عن شعب مصر وكأنه مجموعات محتربة من المسلمين والإسلاميين، من الأقباط والأصوليين؟!

 

ولماذا اختفى الشعب السورى لتحل «مكوناته» بديلا من «وحدته» التى كانت تتبدى فى صلابة صخور الأرض؟! ما الذى دمر الروابط المقدسة وفكك أواصر التوحد فى الوطن والإيمان بوحدة الأمة؟!

 

وإذا ما عدنا إلى تجربة دولة الوحدة وموقع سوريا والسوريين منها لشهدنا مفارقة مفجعة: ففى مثل هذه الأيام من العام 1958 تبدت سوريا كتلة صلبة من المشاعر الوطنية والإيمان بوحدة المصير، والاقتراب من حلم تحرير فلسطين.

 

•••

 

لقد طاف جمال عبدالناصر فى أنحاء سوريا جميعا، من البحر إلى الصحراء، فأطل على لبنان من دون أن يتوغل فيه، وعلى الأردن الذى «هرب» منه إلى اتحاد مع العرش الهاشمى الثانى فى العراق، وعلى الخليج ليطمئنه على ثبات هويته العربية، فى حين كان يمد العون ــ باسم مصر ــ للشعوب العربية فى المغرب، ليبيا وتونس وجزائر ثورة التحرر والتحرير والمغرب المكافح لاستعادة هويته الأصلية.

 

سقطت الكيانات كأنما بسحر ساحر، واختفت الطائفيات فضلا عن المذهبية وكأنها لم تكن، واندثرت الفروقات فى العرق، وتوحدت الأمة.

 

وفى الجولات على المحافظات السورية خرج الجميع، رجالا ونساء، شيوخا وأطفالا، إلى تحية عبدالناصر وتأكيد الإيمان بوحدة المصير: استقبله الأكراد والأزيديون والكلدان والعرب فى القامشلى، والقبائل العربية التى بعضها فى سوريا وبعضها الآخر فى العراق وبعضها الثالث فى الجزيرة العربية، فى دير الزور، واستقبله السريان والأشوريون فى صيدنايا وسائر ريف دمشق، واستقبله الدروز فى جبل العرب والعشائر فى حوران، واستقبله العلويون فى الساحل، والسنة المتحدرون من أصول تركية، فضلا عن الأرمن المهجرين من بلادهم حاملين ذكرى اضطهاد الأتراك لهم، والمهجرين من أرضهم فى اللواء السليب، اسكندرون، واستقبله الإسماعيلى فى السلمية، واستقبله كل هؤلاء مجتمعين فى دمشق عاصمة الأمويين ومركز العالم الإسلامى لدهور، ثم «قلب العروبة النابض» فى نسختها المعاصرة.

 

بالمقابل لم يظهر الشعب المصرى رفضا للوحدة مع سوريا. وإن لم يتحمس لها، فخرج إلى الشوارع بنقص فى وعيه بالعروبة يرحب بهذا التضامن مع مصر فى مواجهة أعدائها إلى حد الذوبان فيها.

 

كان فى صفوف الشعبين، حتما، من لم يرحب بالوحدة الاندماجية، ورأى فيها تسليما بحكم الفرد ممثلا بجمال عبدالناصر، واستغلالا لعواطف الجماهير التى كانت تخلط بين العروبة والإسلام.

 

بعد خمس وخمسين سنة من تلك التجربة الفريدة فى بابها، تقلص الطموح عند المواطن العربى، فى مختلف أقطاره، من التطلع إلى وحدة عربية شاملة إلى إمكان الحفاظ على «قطره» موحدا بدولته وشعبه.. خصوصا وأن شيئا من التفكك قد ضرب وحدة الشعب نتيجة تغليب الشعار الدينى على الشعارات السياسية، سواء أكانت تقدمية أم رجعية.

 

•••

 

كانت فكرة العروبة تجمع بين المختلفين فى الأصول والأعراق والدين، وتوحد بين الشعوب على قاعدة من طموحها إلى الحرية والتقدم والكفاية والعدل. كانت تتجاوز العناصر والطوائف والمذاهب لتؤكد على المشترك، وهو الإيمان بوحدة المصير.

 

أما الشعار الإسلامى فقد أفقده الاستثمار السياسى شيئا من نقائه وجعله طرفا فى الصراع على السلطة.. والسلطة جلابة المفاسد.

 

ثم إن الشعار الإسلامى فى مجتمعات متعددة الدين يعزل، بمجرد رفعه، مكونات أساسية فى الدنيا العربية، بل انه يطاردها بالتكفير بحيث يخرجها من حقها فى المواطنة وليس فقط من حقها فى حكم بلادها.

 

أما فلسطين فإن التطبيقات العملية للحكم بالشعار الإسلامى فقد قسمت الشعب الواحد إلى «مؤمنين» و«كفار»، فأسقطت عن الفلسطينيين المسيحيين هويتهم الوطنية وعن الفلسطينيين المسلمين حقوقهم فى أرضهم، محيلة «القضية» إلى السماء.. متناسية أن الإسرائيليين يزعمون أنهم «الممثل الشرعى الوحيد» لله عز وجل على هذه الدنيا الفانية.

 

ويبقى سؤال أخير: أين مصر من مصر، وأين سوريا من سوريا؟

 

والجواب صعب فى القاهرة كما فى دمشق، وفى بيروت كما فى عمان، وفى جدة كما فى صنعاء، وفى طرابلس كما فى تونس، والى آخر ناطق بالضاد.

 

 

 

رئيس تحرير جريدة «السفير» اللبنانية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved