عن الفساد

أهداف سويف
أهداف سويف

آخر تحديث: الخميس 27 فبراير 2014 - 2:40 م بتوقيت القاهرة

قال أحد الظرفاء الأمريكيين معلقا على نظام الحكم فى بلاده إن الفرق الوحيد بين الحزب الديمقراطى والحزب الجمهورى أن الديمقراطيين يسمحون للفقراء أيضا بممارسة الفساد. وبهذا المفهوم تكون مصرنا قد فاقت الولايات المتحدة فى الديمقراطية؛ فالحكم هنا لا يسمح للمواطن بممارسة الفساد بل يجبره عليه. فحين يكون راتب المدرس، مثلا، لا يفى بأدنى مستوى من الحياة الكريمة فيضطر إلى التوجه لإعطاء الدروس الخصوصية، وحين يكون راتب أمين الشرطة، المحتك دوما بالشعب، لا يفى بأدنى مستوى من الحياة الكريمة فيفرض الإتاوات ويُشَغِّل الميكروباصات، وحين يعتمد الموظف على أوراق النقد يسَرِّبها المواطن إلى دُرْج مفتوح لقاء أن يؤدى الموظف عمله، وحين تستمر هذه الممارسلت عقودا وتنتشر إلى أن تصبح ممارسات متعارفا عليها وليس فيها ما يُخجِل، نستطيع أن نقول إن الدولة أجبرت الناس على الفساد، وأطلقت الخلق بعضا على بعض، كل واحد ماشى حاطط إيده فى جيب جاره.

يتحدث دعاة السوق تامة الحرية عن ظاهرة التقطير أو الـ«ترِكل داون إيفيكت» والتى بمقتضاها كلما زادت الطبقات العليا ثراء قطر هذا الثراء بردا وسلاما على الطبقات التى تحتها فانتعشت وارتاحت، ويظلوا مُصِرين على نظريتهم رغم أن الشواهد كلها أثبتت بالفعل أنها نظرية فاشلة وأن العالم يشكو اليوم كما لم يشكُ من قبل فى تاريخ البشرية من اتساع الفجوة بين من يملكون ومن لا يملكون، فتخبرنا الإحصائيات أن أكثر من رُبع نساء وأطفال الولايات المتحدة، مثلا، يحيون فى فاقة شديدة وأن فى بريطانيا آلاف الأمهات يتنازلن عن وجبات ليستطعن إطعام أطفالهن وأن فيها قرابة نصف مليون شخص لجأوا هذا الشتاء إلى «بنوك الطعام» الخيرية.

وعندنا، وفى البلاد التى تتلازم فيها حرية السوق مع رأسمالية المحسوبية يبدو أن ما يقطر من فوق إلى تحت هو الفساد: من شلالات الفساد الهادرة فى القمة إلى قطرات الفساد الملوثة فى مستنقعات القاع الراكدة.

ما ذكرناه أعلاه هو بعض يسير من ممارسات الفساد القاعدى عندنا، أما فساد القمة، فى مجتمعنا الحاد الهَرَمية هذا، فحدث عنه ولا حرج. من المتاجرة فى ديون البلاد، لاحتكار السلع الرئيسية والتحكم فى أسعارها، لاقتطاع مساحات من الأراضى وتخصيصها للخاصة، لتوجيه الدعم لمن لا يستحقه، لغض الطرف عن الانتهاكات للإنسان وللبيئة، لفساد المقاولات والبناء والأسمدة والدواء...

حين قامت ثورة مصر فى ٢٥ يناير وطالبت بالعيش والعدالة الاجتماعية أعلنت أيضا انها ضد الفساد، وهذا ليقينها بأن الفساد هو الذى يمنع عن الشعب العيش والعدالة الاجتماعية. فلا يوجد سبب موضوعى طبيعى يجعل من بلادنا بلادا فقيرة. العالم مقبل على أزمات فى الغذاء وعندنا إرث القرون من علم وخبرة الزراعة وعندنا حقول كيميت «الأرض السمراء» - لولا السياسات التى تؤدى إلى تجريف الأراضى الزراعية. العالم مقبل على أزمات مياه وعندنا النيل الوفير - لولا السياسات التى تؤدى إلى تلوثه القاتل والعلاقات التى تؤدى إلى استهتار الجيران بمصالحنا فيه. العالم مقبل على أزمة فى الطاقة وعندنا شمس الله التى نُصِرّ على التعامى عنها والمفاخرة بالتخطيط لمشروعات نووية. يشكون ويمتعضون من زيادتنا السكانية وأكثر من نصفنا من الشباب القادرين على العمل والمستجيرين من البطالة. عندنا أجمل سواحل الدنيا وأكثرها تنوعا ونقيم عليها أقبح المنتجعات ونستهدف أرخص الشرائح السياحية. عندنا آثار ليس لها فى العالم نظير ونتركها بل نعزم بها على مختلف الناهبين. عندنا مدن فريدة فى ثرائها التاريخى والمعمارى ونصر على مساعدة عوامل الزمن عليها فندمرها بأيدينا.

وما وراء كل هذا وما فى باطنه وما يلفه من كل جانب هو الفساد. والفساد - فى تعريف مختصر من ويكيبيديا - هو «أخذ المال ظلما من دون وجه حق.. وهو ضد الجد القائم على فعل الائتمان على ما هو تحت اليد». فساد الفقير ضعف نفس أمام قهر الظروف، أما فساد المسئول فهو خيانة الأمانة؛ خيانة البلد والأرض والنيل والشعب والمستقبل. الفساد هو الذى أدى إلى إفقار البلاد حتى جرؤ رئيس المؤتمَنين عليها قبل أن يُخلَع فتساءل مستنكرا ممتعضا وهو يبعد عن نفسه شبهة الرغبة فى توريث ابنه «هاوَرَّثه خرابة؟» الفساد هو الذى أرسل بآلاف من شبابنا إلى الموت أو إلى الذل ــ أو إلى حتى القتل كما رأينا فى الجارة ليبيا فى الأيام الماضية ــ وهم يبحثون عن سبل الحياة. الفساد هو الذى فرّغ مؤسساتنا ــ ولا ينقذها حقيقة من الانهيار التام سوى جهود البعض الذين يحبون هذه البلاد ويحبون شبابها ويحبون الحق، بعض الأساتذة فى الجامعات، بعض الأطباء فى المستشفيات، بعض العاملين بالقضاء، بعض الرجال والنساء فى الإعلام وهكذا.

القانون وحده لا يجدى فى محاربة الفساد، فكما قال المؤرخ القديم، تاسيتوس، فى تدوينه عن الإمبراطورية الرومانية: كلما زاد فساد الدولة كثرت قوانينها. القانون يحتاج المشرع الأمين، والمراقب اليقظ، والقاضى النزيه والشرطة المهنية. الفساد يطول كل شئ، ولذا فمن يحاربه يجد نفسه يحارب على جميع الجبهات. أُنظر إلى حوار المستشار هشام جنينة، رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات، مع الأستاذ أسامة كمال، واُنظر إلى كم موضوع تطرق إليه الكلام الذى تمحور حول الفساد. كل من يرجو الخير لهذه البلاد اليوم يرقب نشاط وكلمات المستشار هشام جنينة، فيطمئن قلبه من جهة، ويخاف على الرجل من جهة أخرى. يتحدث بصراحة وبحكمة وبهدوء، لا يغمض عينيه عن شىء، لا يناور بل يقول ما يعنى دون خوف ودون أن يجرى به لسانه. يستند إلى القانون والدستور والمعاهدات فى أفعاله وأقواله، وقد أعلنها حربا مفتوحة على الفساد، وهو خير من يقود هذه الحرب، فهو رجل قانون، وقاض سابق وشرطى سابق أيضا، ومن الدواعى القليلة التى تبعث على الاطمئنان فى حياتنا العامة حاليا أنه يقود هذا الجهاز البالغ الأهمية. أدعو له بالسلامة وبالتوفيق لنرى غيمة الفساد التى تلف بلادنا، داكنة خانقة مثل غيمة التلوث التى تلف عاصمتنا ــ نراها تنقشع.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved